إن رحيل حامد عمار شيخ التربويين العرب ومؤسس «المدرسة النقدية» فى التربية فى مصر والوطنى العربى يُعد رحيلاً لأحد أعلام الفكر التربوى الذى انشغل طيلة حياته ومسيرته الفكرية بالفقراء وتعليم الفقراء والكادحين من أبناء هذا الوطن، إن قضية الفقر والفقراء كانت الهم الشاغل فى فكر حامد عمار منذ مولده عام 1921، ولقد سجل ذلك بكل فخر فى سيرته الذاتية «خطى اجتزناها بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة» فالنشأة والتكوين والبدايات الأولى فى قرية «سلوا» بمحافظة أسوان فى مطلع العشرينيات من القرن الماضى كانت قاسية ولم ينج منها سوى الأغنياء وأبناء ملاك الأرض الزراعية، إلا أن شيخ التربويين حامد عمار استطاع بإرادته الفولاذية وعقليته المبدعة أن يفلت من حصار الفقر والمرض إلى جامعة القاهرة ثم جامعة لندن ليحصل على الدكتوراه فى موضوع التنشئة الاجتماعية بقرية «سلوا» وتصبح «سلوا» حامد عمار دراسة رائدة فى علم الاجتماع التنموى عالمياً ومحلياً ويتصدر اسم «سلوا» المحافل العلمية، ولقد اختارها حامد عمار موضوعاً للدراسة لاعتزازه بها ولتأكيده أن أبناء الفقراء والكادحين لديهم من القدرات والمكانات التى لا تقل عن أبناء الطبقات العليا يستطيعون بها أن يجدوا لهم مكاناً تحت شمس هذا العالم. ومنذ عودته إلى وطنه فى مطلع الخمسينيات من القرن الماضى انشغل بقضية أساسية وجوهرية، هى تعليم الفقراء، فشارك فى إنشاء المركز العالمى لتنمية المجتمع المحلى بقرية «سرس الليان» فى محو الأمية فى العالم العربى، وتواكب مع ذلك صدور سفره الأول «فى بناء البشر» والذى كرس فيه مفهوم التنمية البشرية والتنمية الانسانية، وأن الإنسان فى نهاية التحليل هو صانع التنمية وصاحبها والمستفيد الأول بثمارها، وكشف النقاب عن الشخصية المصرية فتحدث عن الشخصية المنتجة الفاعلة الايجابية وطرح على ساحة الفكر الاجتماعى والتربوى مفهوم الشخصية «الفهلوية» السلبية بكل معانيها وسلبياتها، فضلاً عن اهتمامه بالثقافة الوطنية والمجتمع الجديد والعالم الجديد، عالم الحرية والعدالة والديمقراطية. إن جلّ كتابات حامد عمار والتى تجاوزت أربعين مؤلفاً وكتاباً وأكثر من خمسين بحثاً ومئات المقالات فى الصحف المصرية والعربية دارت كلها حول مجانية التعليم وتكافؤ الفرص التعليمية والمساواة، وكشف التناقض بين توحش الرأسمالية وسياسة الاقتصاد الحر الطليق والتى اهتمت بما يسمى بتطوير التعليم على حساب تعليم الفقراء وحرمانهم من أبسط حقوقهم الانسانية فى معرفة القراءة والكتابة ومعرفة العالم. إن حامد عمار أحد القلائل الذين تجاوزوا الأكاديمية الصرفة فى الدراسة والبحث والانشغال بقضايا العلم التربوى الضيق إلى أفق السياسة وتكوين الرأى العام، فلقد كان الراحل مساهماً بشكل شبه يومى بمقالاته فى كل قضايا الوطن المثارة بدءاً من القضية الفلسطينية إلى التعليم إلى السياسة اليومية، ولقد تجلّى ذلك فى مطلع الألفية الثالثة وتحديداً بعد هيمنة العولمة وتداعياتها على كل الأصعدة، وهيمنة الرأسمالية الجديدة عالمياً ومحليا، كانت كل كتاباته كاشفة وفاضحة لكل أساليب النظام الرأسمالى القاسى الذى لا يعبأ بالمشاعر الانسانية ولا بالفقر والفقراء، ولكن جلّ إهتمامه هو الربحية البغيضة التى تتجاوز كل القيم الانسانية. إن اهتمام الراحل حامد عمار بقضايا العدالة التعليمية والاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة ومجانية التعليم، كان الهدف الجوهرى والفكرى لمشروعه فى تحقيق التعليم للجميع، وتحقيق التميز للجميع دون إقصاء بسبب الجنس أو الدين أو الوضع الطبقى والجغرافى، ولقد تجلّى ذلك أيضاً فى معركته فى مواجهة إنشاء الجامعات الخاصة فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، وبعد تقديم الحجج والمبررات التربوية والعلمية والأكاديمية والاجتماعية من أن إنشاء تلك الجامعات سيحقق مكاسب علمية للذين يمتلكون القدرة المالية وليست القدرة العلمية والمعرفية، وإن فى ذلك إخلالاً بمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية. ولعل ريادة شيخ التربويين الراحل حامد عمار فى طرح تلك القضايا والهموم الوطنية والتربوية التى لم تكن مطروحة من قبل على ساحة الفكر التربوى التقليدى المحافظ الذى سهم حامد عمار فى تقويض دعائمه وفضح أيديولوجيته التى ناصبت الفقراء العداء لصالح الأغنياء. إن رحيل حامد عمار عنا وعن عالمنا، سيكون بالطبع رحيلاً بالجسد أما الفكر فسيظل معنا وعلينا نحن جيل الأبناء والأحفاد أن نواصل العمل بذات المنهج لتحقيق ما كان يسعى إليه شيخنا الجليل والذى أهدى إلى روح والدته الطاهرة كتاب سيرته الذاتية خطى اجتزناها بين الفقر والمصادفة والجامعة: إلى والدتى نزهة مضحية بنفيس مصوغاتها، ووالدى مصطفى مضطراً لبيع أخصب قراريطه، لكى أمسك بالقلم، يعلمنى ما لم أكن أعلم من حروف حافزات للهمم، نحو كل الخيرات والقمم. كما أكد الراحل حامد عمار فى سيرته الذاتية نجاحه فى اجتياز حالة الفقر (الدكر) إلى حالة أكثر إنسانية بفضل العلم والمعرفة ... هذا هو شيخ التربويين حامد عمار الذى رحل عن عالمنا وبرحيله يغيب عنا أحد أهم إعلام الفكر التربوى النقدى المدافع عن تعليم وحرية الفقراء فى وطننا، كل الآمال معلقة فى أعناق جيل الأبناء والأحفاد لحامد عمار لاستكمال مسيرته الثورية والتنموية فى التربية والمجتمع. لمزيد من مقالات د.شبل بدران