«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض من ذكرياتى
نزار وفاة العرب وحريم السلطان وهيكل وسعد الدين ابراهيم
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 12 - 2014

«هذا كافر.. لن تصلوا عليه» كانت المرة الثانية التى أواجه فيها نفس الصوت الخشن الكريه والسحنة العكرة مقطبة الجبين التى تحاول منعى من الدعاء لميت! المرة الأولى فى أغسطس 1997 فى الجامع الواقع بحديقة «ريجنت الملكية» القريبة من شارع «مارلبون» فى قلب لندن، حين طلعت علينا مجموعة من عناصر جماعة «المهاجرون» المتطرفة لتحاول منعنا من أداء صلاة الجنازة على جثمان دودى الفايد الشاب الذى لقى مصرعه مع الأميرة ديانا فى حادث غامض لم يتقبل الرأى العام -حتى الأن – تفسيراً بريئاً له ..
وصلينا على دودى فى ارتباك أمام الهجمة المتطرفة، وخرجنا مهرولين إلى حيث وقفت السيارة التى ستحمله إلى مثواه الأخير، وقمت بسنادة ذراع أبيه محمد الفايد فى حين إتكأ الرجل المكلوم بمصيبته فى الجانب الآخر على يد الدكتور محمد شاكر سفير مصر فى بريطانيا .. وتبين لنا أن المتطرفين إختطفوا حذاء محمد الفايد الذى مشى حتى السيارة لا يرتدى فى قدميه سوى فردتى جوربه! .
أما المرة الثانية التى واجهت فيها نفس الصوت الأجش المرعب والخلقة المكفهرة المخيفة زاجرتى عن الصلاة على روح جسد مسيحى متوفي، فكانت بعد ثمانية أشهر تقريباً، فى نفس جامع «ريجنت» ومن بعض رموز ومندوبى قوى التطرف والتخلف والجمود والرجعية، المنتمين إلى ذات جماعة «المهاجرون» أحد أفرع تنظيمات مؤسسة التطرف فى لندن، والتى تمددت تنتشر كفطر الماشروم عيش الغراب بين عناصر الجاليتين العربية والإسلامية.
كنت غارقاً فى أمواج متلاطمة لمشاعر وأحاسيس حزينة، متمتماً بالدعاء وسط صلاة الجنازة على روح صديقى الشاعر نزار قباني، وساعتها انتزعنى من خشوعى ودعائى –صوت الكراهية ذاته- الذى تمنطقت كلماته زفرات لاهبة، وخوار نكر فاجر: «هذا كافر .. لن تصلوا عليه» .. وانخرط حضور الصلاة مع صاحب الصوت وثلة من رفاقه فى جدل عاصف وغاضب، فيما أحد المصلين يصرخ محاولاً إنهاء المشهد الفاجع «حرام يا مسلمين»، وآخر يحسبن ضارباً كفاً بكف، وأدى يقية المصلين صلاتهم وسط الإشتباك الذى تطور إلى إلتحام بالأجسام وتدافع بالأيدي.
وهرولنا إلى الخارج متكفئين حتى نقوم بتحميل النعش على السيارة، ليبدأ نزار رحلة العودة إلى دمشق ويوارى تراب الشام الحبيب.
...................................................
إنطبع ذلك المشهد فى ذهنى لا يفارقنى –أبداً- كلما تذكرت نزار، إذ كان تجلياً لمواجهة مع التطرف استمرت حتى ما بعد النفس الأخير.
وكثيراً إستدعيت إلى ذهنى بعضاً من شذرات تلك الصورة البائسة فى حواراتى مع نزار عن التطرف، وقد دار قسم منها فى تمشيات يومية جمعتنا فى «سلون ستريت» بحى «شيلسي» الراقى حيث كان يسكن نزار وراء متجر «هارودز» تقريباً فيما كنت أسكن جاره فى «أنيس مورجاردنز» فى مواجهة نفس المتجر .
وقد سجلت بعضا من تلك الأحاديث، وضمنت أجزاءها حواراتى المطبوعة فى جرائد أو مجلات أو كتب .
حدثت نزار عن التطرف الذى كان إشتباك ريجنت بارك لوحته الختامية حين قلت : ( يسقط شعراء وأدباء ومفكرون مضرجين بدمائهم تحت وطأة إرهاب الجماعات الدينية المتطرفة، كما تختنق الكلمات فى صدور مبدعين، وأفكار فى رؤوس مثقفين تحت وطأة قمع سلطات إستبدادية متطرفة أيضاً .. أى إنتاج إبداعى يمكن أن ينشأ بين شقى تلك الرحي؟) فقال نزار : «ليس هناك جديد تحت شمس القهر والتطرف بكل أشكالها السياسية والدينية والثقافية .. حتى الأنبياء والقديسين لم ينجو من أذى التعصب والعذاب والصلب، إبتدأ بالسيد المسيح، ونبينا محمد بن عبد الله، ووصولاً إلى سقراط .. والحلاج، إنها ضريبة قديمة يدفعها كل من يفكرون بالتغيير أو بالتنوير، أو بخض عقول حجرية ومجتمعات ترفض أن تتغير .. يعنى التصادم أزلى بين النار والماء .. بين الوردة والحجر .. بين سنبلة القمح والمنجل .
وعلى الرغم من هذا السيف المسلط فوق رقابهم، سيظل الكتاب يكتبون .. والشعراء يغنون، المفكرون يفكرون .. والعشاق وعشقون .. إذ ليس من خيار ثالث أمامهم «.
......................................
وكنت قد تعرفت إلى صوت ذلك الشتعر عبر أغنيتين مصريتين شهيرتين إحداهما للسيدة نجاة الصغيرة، وهى «أيظن» (وإسمها الرسمى : أغنية العودة من ألحان محمد عبد الوهاب الذى شدا بها – كذلك- فى نص غنائى بمصاحبة العود)، أما الثانية فهى للسيدة أم كلثوم وإسمها : (أصبح عندى الأن بندقية) عن المقاومة الفلسطينية ولحنها محمد عبد الوهاب كذلك ووزعها الإخوان رحباني.
وقد كانتا التعبير الأوضح عن موجة جديدة من الشعراء إمتلكت ناصة الغناء، بعد أحمد شوقى وعلى محمود طه وحتى أبى فراس الحمداني، وأن تشارك كامل الشناوى موجة نزار فى نفس التوقيت بأغان مثل ( لا تكذبى ) لنجاة –وعبد الحليم بعدها- من لحن عبد الوهاب، و(أنت قلبي) لعبد الحليم ولحن محمد عبد الوهاب، و(على باب مصر) لأم كلثوم من لحن عبد الوهاب وتوزيع أندريا رايدر .
نهايته .. بدأت قراءت نزار بين أغنيتين لنجاة وأم كلثوم، وصار الرجل لى –كمثل جيلى بأكمله- صائغ دستور الحب وواضع تشريعاته البلاغية والإبداعية .. وكثيراً ما عدت إلى مناقشة انطباعاتى عن بعض أبيات أو شطرات القصائد مع ذلك الرائع الذى أبدعها وقد سنحت لى فرصة محظوظة أن أعرفه بإمعان على طول طريق إمتد من فيلا سعاد الصباح فى شارع العروبة فى القاهرة حيث لقاءنا الأول إلى لندن حيث أقمنا لسنوات .
إسم نزار تقاطع عندى – دون أى تفسير علمى لذلك التوافق- مع اسم محمد حسنين هيكل .. ولا يرتبط ذلك بالمشهد الحزين الذى شاهدت فيه لقاء من طرف واحد بين الرجلين وإنما يتعلق بارتباط بين جيلهما وفكرة القومية العربية .
وقبل أن أغادر هذه الفكرة يصح أن أتحدث عن اللقاء الفريد الذى دار بين هيكل ونزار من جانب واحد. إذ حل هيكل على العاصمة البريطانية فى إبريل عام 1998 كعادته فى ربيع كل عام، وتعودنا –كعادتنا- التمشية فى الصباح الباكر حول بحيرة «سربنتاين» فى حديقة «هايد بارك» وكنا نثرثر أثناء تلك المشيات فى كل شئ بدأً من السياسة إلى التاريخ إلى الثقافة، وقد كان الحوار فى كل من تلك الأنساق يبدأ بجملة من الأستاذ هيكل تعكس الهاجس الصحفى الذى يسكنه :( إيه الأخبار؟) .
على أية حال كان أحد الأخبار هو (مرض نزار الأخير) وحالته التى لم تنبئنى بخير، ويوم حكيت لهيكل بعض تفاصيل مشهد مرض نزار، طلب منى أن يذهب لمعاودته فى المستشفي، فلما قلت له : «الرجل فى غيبوبة فما فائدة الزيارة؟» أجابنى : « لنذهب ونودعه بنظره» مستلهماً مسلكاً غربياً فى القيام بوقفة حب وعرفان إزاء من نحبهم ولو –حتي- لم يشعروا بنا، وهو ما يقال له Tribute بالإنجليزية .
وذهبنا إلى مستشفى «كينجز كولدج» بحى «لامبث» فى مواجهة مبنى برلمان ويستمنستر، وقد كان ذلك الحى تاريخياً ميناء لاستيراد وتصدير (الخرفان) عبر نهر «التيمز» (وبالطبع لا علاقة له بجماعة الإخوان المسلمين) !!
ومضينا –معاً- فى أروقة المستشفى حتى وصلنا إلى الحجرة التى رقد فيها نزار، وهناك خفت إلينا سيدة جميلة ذات ملامح عربية، قدمت لى نفسها بأنها : هدباء إبنة نزار، وقمت –بدوري- بتعريف الأستاذ هيكل بها فأبلغها مشاعره وربت يدها يكلتا كفيه، ثم وقف –مطيلاً- ووجهه يشخص إلى باب غرفة نزار فى مشهد حزين ومؤثر ولافت.
يظهر اسم هيكل فى ذاكرتى –مرة أخري- حين أتذكر نزار، إذ إخبرت الأستاذ هيكل بأننى سألتقى نزار على فنجان قهوة فى عصارى أحد الأيام، فقال :»خلينى أشوف عندى إيه .. ولو كنت فاضى ح أقعد معاكوا» وأخبرنى الأستاذ هيكل بأنه –فقط- سيقابل الدكتور أشرف مروان، فإقترحت عليه أن ينضم إلينا، وقد كان أشرف مروان واحد من أحب الناس إلى قلبي، وجمعتنا صداقة حقيقية طوال فترة عملى مديراً لمكتب الأهرام فى لندن أو مديراً لمكاتب الأهرام فى الولايات المتحدة، وفى الفترتين كانت حالة أشرف الصحية على غير ما يرام وأجرى عدة جراحات كبيرة فى لندن على يد السير مجدى يعقوب وفى أمريكا كذلك على يد جارسيا الشهير.
وأذكر أننى كنت ألتقى أشرف فى لندن بنادى السيارات الملكى فى كينزنجتون، وتقع البناية –الذى لقى مصرعه من شرفتها- خلفه، كما كنت أقابل أشرف فى الولايات المتحدة «بتايسونز كورنر» حيث كان يمضى النقاهة بعد إجرائه الجراحات، وينفذ تعليمات الأطباء بالمشى لمدة 30 دقيقة يومياً فى المول التجارى الملحق بالفندق، وبعد المشى كنا نجتمع فى قهوة داخل المول مع الدكتور إبراهيم شحاتة نائب رئيس البنك الدولى وقتها وزوجته، ومنى عبد الناصر قرينة د. أشرف مروان، وفى إحدى المرات حملت إلينا زوجة الدكتور إبراهيم شحاته صينية بقلاوة «بيتي» أظنها كانت أحلى أحداث فترة نقاهة أشرف.
وحين أبلغت نزار بأننا سنلتقى هيكل فى فندق «لانزبره» فى «هايد بارك كورنر» تهلل –بفرح حقيقي- ودخل عليه فاتحاً ذراعيه، وصافح الدكتور أشرف مروان الذى كان سبقنا وأنهى حديثاً خاصاً مع هيكل إستمر ساعة . (وبالمناسبة حدثت تلك المقابلة بعد عودة أشرف من إحدى زياراته لأمريكا التى أخبرنى أنها كانت لجمع وثائق معينة عن تاريخ مصر، وأياً كانت الأسباب الأخرى لزيارته إلى نيويورك فقد دعانى لمطالعة ملف قال أنه عاد به من هناك ويتضمن معلومات عن علاقة حسن البنا بالبريطانيين والأمريكان).
نهايته مرة أخرى .. بدأت وقائع اللقاء بين نزار وهيكل بالتحايا الحارة والإطمئنان المتبادل على الصحة والأحوال، ثم إذا بنزار قبانى يفاجئنا بقوله إن هيكل هو الذى قدمه إلى المجتمع الثقافى فى مصر عام 1954، وكان هيكل –وقتها- رئيساً لتحرير أخر ساعة، إذ استمع الصحفى للشاعر وتحمس لمساعدته فى إصدار ديوانه الأول : (طفولة نهد)، وعند ذكر اسم ذلك الديوان راح نزار يتلو بعضاً من شطراته وهيكل يكملها (كل النهود .. أبيضها وأحمرها وأسودها ..) وعندما فرغا معاً نفث هيكل دخان السيجار مشعلقاً ناظريه إلى سقف القاعة ثم منفجراً فى ضحكة ذات طابع (باشواتي) كان يتوخاه فى أمور عديدة رغم يقينى بأنه لا يمثل مزاجه الإختماعى والسلوكى الحقيقى والطبيعي، وفى هذا الإطار كان إختياره لبدله وستراته التى تقارب فى معظمها درجات من الزرقة مخالطة الرمادى أحياناً واصلة إلى الكحلى navy-blue أحياناً أخري، قد ذهبت معه –مرة- إلى الحائك الترزى الذى يقوم بتفصيل بدله (شغل يد) فى «بوند ستريت» الراقى لاستلام بعض تلك الحلل، وفى أثناء حديثه إلى الترزى تأملت جدران المحل ولفتتنى لوحتان إحداهما شهادة من إسماعيل باشا خديو مصر الذى كان صاحب المحل الأول –تاريخياً- يقوم بالتفصيل له، والثانية شهادة مشابهة من هيلا سلاسى إمبراطور أثيوبيا، وضحكت –فى سري- على أن هيكل توخى ترزى إسماعيل باشا بالذات ليكون من يحيك له ملابسه .. وقد حكيت تلك الحكاية لنزار –حين أبدى لى ملاحظة فى طريق عودتنا بعد لقاء لانزبره- عن أناقة هيكل وشبابه (كان هيكل وقتها مازال فى سن الخامسة والسبعين)
وفى صبيحة اليوم التالى تكررت ضحكة هيكل التى حرص أن تكون (باشواتية) فى موقف آخر، إذ فاجأنى بإحدى قدراته المدهشة جداً والتى لم أك أعرفها وهى موهبته الخارقة فى تقليد الأشخاص والأصوات، وهكذا فعل ساخراً –على نحو مرير- من فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي، والحقيقة أن تلك المسألة أذهلتنى مرتين .. الأولى من القدرة التى لا تصدق على التقليد، والثانية لأن هيكل نفسه كان قد طلب منى فى منتصف التسعينيات أن أتوسط لدى الشيخ طنطاوى فى أمر عائلى بعد أن قرأ حواراً لى معه فى صحيفة «الحياة الدولية» التى كنت مديراً لمكتبها فى القاهرة، إذ كان ابن الأستاذ هيكل على وشك الزواج من فتاة فلسطينية، ولما كان العقد فى مثل تلك الزيجات يتم فى الشهر العقارى فقد طلب هيكل منى أن أدعو فضيلة الشيخ طنطاوى لحضور الإحتفال العائلى فى بيت هيكل –قبل حفل الإستقبال الليلى فى أحد فنادق القاهرة الكبيرة- وذلك للقيام بما أسماه هيكل :»شوية تبريكات .. تبريكات» !!
وقد ذهبت إلى الشيخ طنطاوى فى مقردار الإفتاء (إذ كان مفتياً للديار وقتها) وأستسمحت فضيلته لحضور الإحتفال العائلى والدعاء للعروسين، فوافق الرجل بترحاب وبشاشة قائلاً :(هذا أستاذنا .. وسأكون عنده فى الموعد إنشاء الله).
ومن هنا دهشت جداً من الطريقة التى سخر بها هيكل من الشيخ طنطاوى فى مشيته معى حول بحيرة «سربنتاين» وهى السخرية المذيلة بنفس الضحكة (الباشواتي) التى لم أتفاعل معها أبداً.
وأعود إلى جلستنا فى فندق (لانزبره) التى دار قسم منها حول قصيدة نزار الشهيرة (متى يعلنون وفاة العرب) وكانت موضوعاً لحوار دار بينى والشعر الكبير فى منزله بتشيلسى ونشرته «الأهرام» على صفحة كاملة .
وفى حديثه لهيكل كان نزار يبدو فى قمة الغضب الصادق من إحساسه بأن القومية العربية تسقط ويتلاشى معها حلم جيل كامل، وبالذات عند مثقفى الشام منبع الفكر القومى .. وقد رد عليه هيكل بأن الأفكار لا تموت وإنها ستبعث من جديد فى ظرف تاريخى مناسب، وبدا هيكل فى الصورة التى يحبها مربتاً على كتف رجل مسكين، وآخذاً بخاطره !
كانت قصيدة (متى يعلنون وفاة العرب) حدثاً كبيراً، ولذلك إحتل حوارى مع نزار عنها قدراً هائلاً من إهتمام المثقفين المصريين حتى أن عدداً معتبراً منهم حرص على الإتصال بى فى لندن للتهنئة بالحوار، وضمنهم محمد سلماوى الذى قال لى :(كان لازم تسافر لندن علشان نقرا حوار بالأهمية دى مع نزار)!
وفى ذلك الحوار قلت لنزار : (يسود الساحة الثقافية والفكرية العربية اليوم روح تكفيرى لافت .. وإذا كنت –ونحن معك- ندين التكفير العربى أو القومى لكاتب من حجمك أو لا ترى أنك –أيضاً- أنك فى «متى يعلنون وفاة العرب» كنت تطرح فكراً تكفيرياً ضد العروبة يكفرهم فى إيمانهم بالعصر أو إرتباطهم به، ويكفر أحلامهم فى أن يكونوا رقماً صحيحاً فى عالم اليوم) ..
وأجابنى نزار ..
« أولاً: أنا لم أكفر العرب وإنما هم الذين كفروا بأنفسهم، وخانوا تاريخهم، وإستعذبوا الهوان والهزيمة والغيبوبة .. وثانياً: أنا لم أقطع علاقة العرب بالعصر، إذ لا علاقة لهم بعصرهم الذين يعيشون فيه مطلقاً، إنهم فئة جديدة من أهل الكهف لا تشعر بحركة التاريخ أو إيقاع الحياة .. وثالثاً: أنا لم أمنع العرب من أن يحلموا .. بل على العكس أنا أصرخ فى وجوههم حتى يفكروا، ويحلموا، ويغامروا، وبيحروا إلى شواطئ المستحيل قبل أن يتحولوا إلى كوم من الحجارة «.
وعاودت سؤال الرجل الغاضب : (وهل ترى أن السخط الذى قوبلت به قصيدتك : متى يعلنون وفاة العرب كان نقدياً أو جماهيرياً؟).
وقال نزار:»لا هذا ولا ذاك فالقصيدة شقت طريقها إلى الجماهير العربية واستقبلت بحفاوة فى كل مكان وهذا دليل على أن الموتى يعشقون الشعر، ويرقصون على إيقاعاته الجميلة أما عن النقاد، فأنا لا أشغل نفسى –كثيراً- فى قراءة ذلك (الردح النقدي) الذى ينشر عنى فى الصحف والمجلات الأسبوعية العربية، بل أفضل أن أشتغل بكتابة قصيدة جديدة .. صحافتنا بحاجة –دائماً- إلى فريسة تملأ بها معدتها، وياطالما ملأت معدة الصحافة العربية وأسكت جوعها بأخبارى التى لا تنتهي، حتى مللت سماع أخبارى ورؤية تصاويرى .. حولت أقلام تجار النقد ومرتزقته تاريخى الشعرى إلى (سوبر ماركت) وجسدى إلى وليمة».
فلما سألت نزار: (ولماذا آثرت أن تكتب بنفسك شهادة وفاة العرب ولم تدع غيرك يكتبها؟)
أجاب على نحو قاطع:»بما أننى الناطق الرسمى بلسان مئتى مليون عربى عاطفياً وسياسياً قفد كلفونى بكتابة هذه الشهادة»!!
كأنما كنت على موعد مستديم مضروب مع قصيدة (متى يعلنون وفاة العرب) إذ كنت على موعد بعد أيام مع د. سعد الدين إبراهيم الذى جاء إلى لندن لحضور مؤتمر لجمعية مشبوهة اسمها Minorities-group أو (مجموعة الأقليات) –ولم يك اسم سعد الدين إبراهيم حتى ذلك التوقيت محاطاً بكل الإلتباسات المعقدة التى تلفه الآن، وإن كانت بعض الأنباء المدهشة سبقت حضوره إلى لندن مثل شجاره المخجل مع الشاعرة سعاد الصباح، أو الحكايا التى ذاعت وشاعت على لسان المفكر الكبير السيد ياسين الذى شغل منصب أمين عام منتدى الفكر العربى الذى يرأسه الأمير الحسن بن طلال، وقد خلف السيد يسين فيه سعد الدين إبراهيم فإكتشف أموراً وطالع أوراقاً صدمته فراح يحكيها لكل من صادفه.
وبالإضافة قفد كان مؤتمر الأقليات الذى حاول سعد الدين إبراهيم عقده فى مصر قد حظى برفض شعبى وسياسى واسعين، رآه المثقفون حلقة فى محاولات إثارة الحزازات والنعرات الطائفية وطرح مبكر لما عرف –بعد ذلك- بسيناريو تقسيم مصر، وقد كتب هيكل فى الأهرام –وقتها- مقالاً نارياً عن سعد إبراهيم ومؤتمره الذى أجبر على نقله إلى قبرص.
جاء سعد الدين إبراهيم –إذن- إلى لندن، واتصل بى فأردت أن أجدد معرفتى بأحواله الفكرية التى تتقلب كل يوم وأتبين آخر صورها وخطابها، إذ عرفت سعد الدين إبراهيم عام 1981 حين كنت مديراً لمكتب جريدة «الشرق الأوسط» بالقاهرة وجاءنى يحمل مقالاً بعنوان: (هيكل وحرب الخنادق)، وقرأته فلم يرقنى لأن فيه من اللدد الشخصى ما رأيت أنه لا يناسب صحيفة دولية، ومن ثم لم أنشره، ثم تواصلت معرفتى بالرجل –بعد ذلك- فى مواقف عديدة رأيته فيها بألف وجه.
على أى حال دعوت الدكتور سعد إبراهيم إلى العشاء، وأخبرته أن نزار قبانى سيحضر معنا، وكذلك الدكتور إبراهيم كروان الأستاذ بجامعة (يوتا) الأمريكية، الذى كان خبيراً بمركز دراسات الأهرام زمان، وأصبح خبيراً بالمعهد الدولى للدراسات الإستراتيجية (IISS) فى لندن.
وإلتأمنا جميعاً حول إحدى موائد مطعم البستان فى نايتسبريدج (خلف فندق شيراتون بارك تاور)، وهو مطعم (لبناني-فلسطيني) عظيم الشأن، وكانت قصيدة (متى يعلنون وفاة العرب) هى مفتتح الجلسة ومنتهاها، إذ تقاسم الحوار رجلان بدا واضحاً أنهما على طرفى نقيض، إذ أن أحدهما (وهو سعد) هو مفكر قومى سابق أو مستقيل والثانى (هو نزار) مفكر قومى يعيش محنة ضياع القومية العربية على يد رجال مثل سعد الدين إبراهيم.
ووسط حوار إحتدم بين الرجلين إتهم فيه سعد نزاراً بأنه متحجر وأشار نزار إلى إرتباطات سعد المريبة، كان إبراهيم كروان يتظاهر بتهدئة النفوس فيما يبتسم على نحو قريب مكير كعادته وكنت أحاول أن يسير النقاش فى مسار قدرته ولا يتحول إلى خناقة بلدى جداً .
وكعادة المثقفين العرب تظاهر الجميع بقبول الرأى الآخر، بينما لمحت فى عين نزار نظرة لم أفهم كامل فحواها إلا حين لقيته بعد ظهر اليوم التالى فبادرنى قائلاً: (شوها المدى اللى وصل سعد إليه فى إرتباطه بالخطط الدولية ضد مصر والعرب؟)
ولم أجد إجابة، وحتى الأن بعد مرور ثمانية عشر عاماً، لا بل وبالذات حتى الأن.
...........................................
تعددت حواراتى المسجلة مع نزار فى مواقع مختلفة، كما تنوعت زواياها وموضوعاتها، وربما كان الأكثر تكراراً فيها زاويتان عنونتهما: (الكلمة والسلطان) و(حريم السلطان).
فأما عن الكلمة والسلطان فقد ساءلته مرة: (هل تستطيع الكلمة فى شعرنا العربى أن تتملص من ضغوط يمارسها الحكام على حريتها وصدقها؟) فأجاب:»الكتاب والشعراء العرب –الآن- يتبعون مبدأ التقية فيخافون على لقمة العيش والأولاد، وصار الشاعر يقول لنا: أنا أرجئ المقاومة حتى إشعار آخر، وأنا ضد تلك الفكرة الإرجائية فلا يوجد شئ إسمه (غداً) فى الشعر .. وظيفة الشاعر هى أن يضئ الطريق، ويكسر ويحطم الخرافات، وأن يقتلع خيام أهل الكهف .. ومع الأسف نحن نقرأ –فى العالم العربي- المقالات والإفتتاحيات ونستمع إلى التعليقات الإذاعية، وكلها تريد أن (تقول ولا تقول) فى ذات الوقت .. تريد أن ترضى مائة طرف فى آن واحد، ولهذا قلت أن على الكاتب أن يكتب بأصابعه العشرة، أما أن يكتب إنسان ما بإصبع واحد أو أصبعين، ويخبئ بقية أصابعه حتى إشعار آخر فذلك أمر لا يجوز»
وعاودت التساؤل: (وبكم أصبع تكتب أنت؟) فقال: « يشرفنى أننى أكتب بأحد عشر أصبعا، فلابد من خلق أصابع جديدة للتعبير، ولشن الهجوم، وخلق وتأسيس الانسان العربى القادم .. مشكلة المثقف العربى الآن هى مشكلة الأقنعة فكل واحد يلبس لكل عصر قناعاً، ولكل حاكم قناع، ويغير الشعراء سروجهم .. وأخطر ما فى الكتابة أن تغير السرج الذى تركب عليه، يجب أن تركب حصاناً واحداً، وتقاتل عليه، أما تغيير الملابس وتغيير الأقنعة وتغيير المكياج فهذا كله من صفات الأديب المنافق المرتزق وليس من صفات الأديب المواجه الذى يحترف المواجهة»
وفى حوار آخر قلت لنزار: (كنت تحدثنى عن شعراء وظفوا أنفسهم لخدمة قوة السلطة والسلطان، لكن الزمن تغير فهل توظفت الكلمة –الآن- لخدمة قوة المال والدولار؟)
وقال نزار:»كاتب السلطان أو شاعر السلطة لم يزل موجوداً، ولكن الأسماء تغيرت .. كان شاعراً للخليفة ثم لأمير المؤمنين ثم الباب العالى .. والآن ظهر سلاطين جدد ربما يحملون أسماء تقدمية، ولكنهم –أيضاً- سلاطين يبحثون عن كتابهم .. ما هو السلطان ؟! .. السلطان هو من يريد منى أن أسبح بحمده، ويريد منى أن أغنى عن عدله وجماله .. كل من حولنا سيافون كبار .. ونحن الشعراء مطلوبة رؤوسنا على صينية من الذهب أو الفضة .. إن لم نغنى لهم مسبحين معددين المناقب آناء الليل وأطراف النهار .. ولكن هؤلاء الذين يغنون للسلطان ليسوا بشعراء .. الشاعر اليوم هو من يواجه، وأنا أعرف أننا نمشى على حد الخنجر ولكن هذا هو الشعر .. الشعر هو عملية إستشهاد، وقد إنتهى شعر شم النسيم أو المشاوير فى ضوء القمر .. السلطان .. أى سلطان .. لا يريد –إطلاقاً- أن يسمع غير صوته، ولا يطرب إلا لصوته، وأى صوت آخر .. أى صوت رافض .. أى صوت يقول لا سيكون مداناً من هذا السلطان .. ولذلك فإن هذا الزمن هو زمن الشاعر الذى يعرف أن الكتابة هى عملية إنتحار، وأن الكلمة لها ثمن عليه أن يدفعه، وأن يصرخ بالحقيقة دون خوف أو إرتجاف».
وقلت لنزار: (وهل تشعر أنك –وحدك- فارس تلك الكتابة الإنتحارية؟) فأجانبي:» الكاتب –دائما- وحده .. من الجائز أن يقف على منبر فيه عشرة آلاف أو عشرون ألفاً ويلقى عليهم كلماته، ويلقى التصفيق والإعجاب والإنبهار، ولكنه يعود لينام فى فراشه وحده وسيف السلطان مسلط عليه !.. الكلمة الجريئة التى لا تلبس الأقنعة أو تجامل .. ملاحقة ومضطهدة ومقهورة .. المطلوب من الشاعر –اليوم- أن يموت على أوراقه .. فن الكتابة هو أن نموت على أوراقنا، ولكن –مع الأسف- فإن أحداً لا يرضى بالموت .. يعتبرون الإستشهاد جنوناً .. ومن هنا لم تظهر لدينا قصيدة شعر تريد إحتراف الجنون .. كانت كلماتى –دائما- صرخة فى وجه الظلم .. وصرخة فى وجه القهر .. لم ألبس الأقنعة، ولم أراهن على أى شئ لم أقتنع به، ولم أحاول أن ألتف حول الأشياء إطلاقاً، فقد إعتبرت نفسى –منذ البداية- المتحدث الرسمى بإسم الوجدان العربى .. أنا ألتقط من الشارع العربى الحادثة السياسية فأصوغها .. أنا موجود فى قلب هذا الشارع، وأحاول صياغة وجدانه .. فى دول العالم الثالث وظيفة الشعر ليست ممارسة (التطريب)، ولكن وظيفته هى ممارسة (التثوير)، ولذلك فليست هناك أيه أهمية لشعر لا يغير .. لا أقول لك أننى فتحت القسطنطينية بالشعر، ولكننى أقول أننى –على قدر طاقتي- إستطعت أن أهز تلك الأرض قليلاً .. أقاتل كى أغير ولو سنتيمتراً واحداً من مساحة الحزن العربي، ومساحة الإنكسار العربى .. الكتابة عملية انتحارية ولكن الراغبين فى الإنتحار قليلون جداً .. مازال الكاتب أو الشاعر يسطر كلماته على الورق وعقله يحسب كيف ستفسر هذه الكلمات .. متى سننتهى من عصر (التقية) .. عصر الذعر .. عصر الخوف من الورقة البيضاء!! .. الورقة البيضاء أفق مفتوح يجب أن أرقص عليه بمنتهى الحرية .. أرقص –حتي- عارياً .. فأنا لست شاعراً سرياً .
..............................................
أما فى ملف (حريم السلطان) فقد راكمت عديداً من أوراق حواراتى مع نزار فيه .
كان الرجل يقول لي:»المرأة حرة فى ممارسة خياراتها العاطفية، وممارسة خياراتها السياسية ليس هناك فرق، فالرجل يمكن أن يقول أريد هذه المرأة، أو أحب هذه المرأة، وليس عاراً أن تقول المرأة أريد هذا الرجل .. ليس هناك عار على المرأة وليس عاراً على الرجل .. كل محاولة لإجهاض حرية المرأة أو استمرار عبوديتها لإقطاع الرجل هى وقوف ضد المنطق وضد الطبيعة .. ولها أقول .. لها أقول: لا أحلم أن أصبح قيصر .. لا .. ولا أحلم أن أستلم العرش فعرش الشعر أكبر .. ولا .. ولا أحلم أن يمشى أمامى وورائى صف عسكر .. كل ما أرحوه يا سيدتى أن تحبينى قليلاً لا لشئ .. إنما كى أتحضر»
وقلت –مرة- لنزار: (متى تصل المرأة العربية إلى حرية الإختيار؟) فقال:»حين يصل شيخ القبيلة إلى رؤية المرأة العربية بكل إمكاناتها وطموحاتها وحقوقها .. حين يصل شيخ القبيلة إلى أنه ليس هناك شئ إسمه عقل نسائى وشئ إسمه عقل رجالي، كما ليس هناك شئ إسمه حق نسائى وشئ اسمه حق رجالى .. الذى خلق التمييز العنصرى هو الرجل، والرجل –كمالك- يصعب عليه أن يتخلى عن ملكيته، فلا يوجد من يملك الأرض ومن عليها، ثم يتنازل –طواعية- عن جزء منها للمرأة .. هناك من يقولون: ليست هناك شاعرة جيدة أو رسامة جيدة، وأن المرأة لا تستطيع أن تعمل كوزيرة عدل أو كوزيرة ثقافة .. من الذى قال هذا؟ .. إذا كانت الطالبات فى كليات الحقوق وفى الصفوف الأخيرة فى كل لون من ألوان الدراسة يتميزن ويتفوقن فكيف يمكن أن نعتبر المقولات السابقة صحيحة .. هذا نوع من الإستعباد الأبدي، فالرجل العربى يرى أنه مالك جسد وعقل المرأة، وهو مؤمن بأن تظل المرأة رهينة لديه إلى ماشاء الله، يضعها فى القفص الذى يريد، ويوافق أو لا يوافق على أن تخرج المرأة أو تسافر أو تعود .. هذا مجتمع خطأ .. خطأ .. غلط .. خطأ «.
وحين قلت له –فى سياق حوار ثان- إننى أسمع أصواتاً تقول أن المرأة العربية أما زوجة هى التى ربت الرجل العربى على هذا، أدهشنى نزار بقوله:»بعض النساء لا يحببن النضال بما فيه الكفاية .. بعض النساء راضيات بالبقاء تحت خيمة الرجل، بحيث يأتيهن المال إلى عندهن، والبيت المفروش والسيارة، فلماذا يتحررن؟ أليركبن الأوتوبيس فى كل يوم ويذهبن للوزارة؟! .. أنا أعرف بنات جامعيات كثيرات رفضن الزواج من زملائهم الجامعيين –مع وجود عاطفة حب تربطهن وإياهم- وبحثن عن رجل ملئ أو غنى .. هذا نوع من الكسل التاريخى أو البطر التاريخي، فالمرأة تريد أن تكون –دائما- شهرزاد التى تنام حتى الثانية عشرة ظهراً، وتطلب فنجاناً من القهوة ليأتيها فى السرير، وتذهب لأوروبا مرتين فى السنة لتقوم «بالشوبنج» .. المرأة تريد أن تحتفظ بدور الأميرة، وتريد من يغسل قدميها بماء الورد، ويحممها، ويعطرها، ويكحلها فهذا فى طبيعتها .. وإلى جوار هذا الكسل التاريخى فإن المرأة كانت تهتف حررونى أى أنها تطلب من الآخرين تحريرها بينما تبقى هى مستريحة .. تسألنى –يا دكتور عمرو- لماذا لم تستطع أن تصل إلى المكانة التى تستحق، وأقول أن جرءاً من التهمة أو من واقع التبعية يقع –دون شك- على الرجل، ولكن الجزء الأكبر يقع على المرأة، لأن الحرية تؤخذ ولا تعطي، لابد لمن يريد أن يكون حراً أن ينشب أظافره وأسنانه ومخالبه فى سبيل الحصول على حريته، يتساوى فى هذا الفرد والشعب .. المرأة شعب مضطهد .. هى مثل شعوب أفريقيا التى قاتلت من أجل طرد الرجل الأبيض، ولكن المرأة تواجه رجالاً صفراً وبيضاً وسوداً، كلهم يمارسون عليها القمع والبطولات الكاذبة .. لابد أن تتخلى المرأة عن فكرة شهرزاد المستريحة، والحصول على كل شئ بسهولة، والتى جعلت النساء –حتى المثقفات- طالبات للعيش الهنى القرير، وباحثات عن طبق الفاكهة الذى يجيئهن مبرداً من الثلاجة، وما لم تقم إحداهن إلى الشجرة وتقطف –بيدها- شجرة الحرية فإنها –أبداً- ستظل مستعمرة».
وفى ملف حريم السلطان قال لى نزار فى حوار آخر:»مازال الرجل والمرأة يئدون المرأة بأشكال مختلفة .. نحن –أيضاً- موؤدون سياسياً، فمن ذا الذى يستطيع أن يقول كل ما فى أعماقنا؟ من ذا الذى يستطيع أن يمارس فضح كل هذه المسرحية المفجعة التراجيدية التى تدور على الأرض العربية؟ .. أنا شعرى يحمل الحقيقة لا الفضيحة .. يقولون إن نزار هو شاعر الفضيحة، وهذا صحيح من زاوية أننى شاعر الفضيحة العاطفية والسياسية .. أناأعتبر الفضيحة هى الوردة التى يضعها الشاعر فى عروة ثوبه .. ليس هناك شعر لا يفضح شيئاً وإلا كان كلاماً فارغاً، أهميتى تأتى من أننى رفعت الستار، وأطلقت الحب من الأقبية السرية إلى الهواء الطلق .. هم يسمون هذا –الفضيحة- ولكننى أسميه عالمية جميلة جداً .. الناس كانوا يتبادلون الحب فى الأقبية وفى الظلماء ومن ثقوب الأبواب فأخرجته –أنا- إلى هايد بارك كورنر وجعلته يستنشق الهواء .. أنا لا أتاجر بحبى ولا بحب الأخرين الحب معجزة إلهية مثل الربيع، مثل النجوم والأزهار والبحار، فلماذا نستعمل مبدأ (التقية) فى الحب، ونختم عليه بالشمع الأحمر،ونضع عليه الأقفال، عملية الوأد العاطفى عندنا مستمرة مع أن الإسلام ألغاها!!
.........................................
وأحب –كثيراً- أن أختم سطورى عن نزار بمقولة أعود فيها إلى نصه وخطابه السياسي، وقد وصف لى تجربته فى الإثنين بقوله:»منذ قصيدتى (هوامش على دفتر النكسة) التى كتبتها عام 1967 تخليت فى شعرى عن عقلية ( الفتوات) والفشورة والمرجلة والعنتريات الفارغة، والإنتفاخ القومى والشوفينى .. أين هو الزهو الوطنى الذى نتحدث عنه؟ وكيف أكتب عن الشمس إذا كنت لا أراها .. وعن الوردة إذا كنت لا أشم رائحتها .. وعن الرقى إذا كنت أعيش عصور الإنحطاط .. لا يمكننى تجميل وطن ما عاد جميلاً .. فأنا لست طبيب تجميل أو منشداً فى كورس جماعى .. أنا شاهد على عصري، ورسام إنطباعى يرى الأشياء بحجمها الطبيعى وألوانها الطبيعية، ولا يضع اللون الوردى مكان اللون الأسود .. فى عصر الهزائم والسقوط والتشرذم والتفكك و(الهرولة) لا مكان لعنترة إبن شداد وأبى زيد الهلالى وعقبة بن نافع .. هؤلاء الأبطال كانوا أبطالاً فى وقتهم، أما فى زمن تنكيس الرايات .. وإستقالة السيوف .. وموت الصهيل، فإن كل قصائد الفخر التى نقولها لا تساوى مليماً واحداً».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.