قد يظن كثير أنّ المسلمين هجروا الفنون وأداروا ظهورهم لها؛ باستثناء فن العمارة الذي برع فيه أهلُ الإسلام براعةً غير مسبوقة، ولكن الحقيقة أنّ المسلمين اهتموا بفنون أخرى، خاصةً فنَّ التصوير الذي أولوه عنايةً كبيرةً، وإن ظلت آثارها مستترةً خفيةً لم تلق اهتمام مؤرخي الفنون، رغم تفوق أسماء مهمة في هذا المجال..، ورغم نشأة التصوير الإسلامي في الشام والعراق متأثرًا بأتباع الكنيسة الشرقية، إلَّا أن أهل فارس أبرز من برع في فنون التصوير، قد يكون هذا لتأثير كل من أتباع مذهبيْ ماني، ومزدك في الأساليب التصويرية لفناني الدين الجديد، أو لتأثر هؤلاء الفنانين بالأساليب الصينية بحكم الجغرافيا المتقاربة بين كلا المنطقتين. ومهما يكن من الأسباب، فسوف تظل المدرسة الفارسية في التصوير علامةً فارقةً في تاريخ الفنون الإسلامية يجب الوقوف أمامها طويلاً..، ويُقسم النقاد والمختصون الأسلوبَ الفارسي الإسلامي في التصوير لعدة مدارس، أولها: المدرسة التترية، التي أعقبتها أخرى ازدهرت في عصر تيمور لنك ومن جاء بعده من حكام أسرته في كلٍّ من مدينتيْ سمرقند، وهراة، وسُميت التيمورية تيمنًا بتيمور لنك أو تيمور الأعرج كما يعني لقبه، ثم المدرسة الصفوية، ونهاية بمدرسة أصفهان التي نمت في عصر الشاه عباس الأكبر وخلفائه، ومن بين هذه المدارس بزغ نجم كمال الدين بهزاد المولود في هراة حوالي سنة 854 هجرية الشاهد على أفول نجم التيموريين، ثم استواء الصَّفَويين على عرش فارس. وقد تعلّم بهزاد على يد المصوّر الفارسي الشهير أحمد التبريزي، وخدم في بلاط التيموريين برعاية السلطان حسين بيقرا ووزيره مير على شير، ثم ظل في مسقط رأسه هراة إلى أن استولى عليها الشاه إسماعيل الصفوي سنة 916 هجرية، فانتقل بعدها إلى تبريز وخدم في البلاط الصفوي حتى أصبح ذا حظوة كبيرة لدى الشاه إسماعيل وولده الخليفة من بعده الشاه طهماسب الذي كان بدوره مصورًا ماهرًا كما تخبرنا المصادر التاريخية، وترقى بهزاد حتى عُيِّن مديرًا للمكتبة الملكية الخاصة بالشاه إسماعيل ورئيسًا لكل أمناء المكتبة والعاملين بها من الخطاطين والمصوِّرين والمُذهِّبين عام 928 هجرية، ومن الحوادث التي تدل على شدة اهتمام الشاه إسماعيل ببهزاد أنه خبَّأه مع الخطاط الشهير شاه محمود نيشابوري في قبوٍ وقتَ اندلاع معاركه مع العثمانيين حتى تمر المعارك بسلامٍ خوفًا عليهم من الوقوع أسري في يد الأتراك ثم عاد للاطمئنان عليهما ونقلهما لمكان آمن، ورغم أسلوبه المميز والمعروف في التصوير إلَّا أن الكثير من المصورين المعاصرين له وحتى اللاحقين عليه قد استغلوا رفعة شأن الرجل وأهمية ما تبدع يداه ليقوموا بتقليده، ورسم كثير من الصور، ثم ينسبونها إليه عن طريق إمضاء اسمه على العمل الفني وبيعها بمبالغ كبيرة، في وقتٍ كان حكام الهند وفارس والأسر التترية الثرية يتسابقون للحصول على أعماله. ويعد بهزاد من أوائل الفنانين المشرقيين الذي قاموا بتوقيع أعمالهم بعبارة «عمل العبد بهزاد» وهو تقليد لم يكن منتشرًا في الشرق نفس انتشاره في الغرب .. وكلمة «منمنمات» تعني الصور المصغّرة، وهو الفن الذى برع فيه الفنان الفارسي الكبير، ويرى بعض مؤرخي الفنون أنّ عظمة بهزاد الفنية تكمن في تحكُّمه في الصورة لاغيًا سطوة الخطاط الذي كان يحدد الفراغ المسموح به للمصوِّر في المخطوط، ويتحكَّم كذلك في اختيار الموضوعات والنصوص التي يجب أن يقوم برسمها المصوِّر داخل المخطوط، فكان بهزاد لا يترك للخطَّاطِ سوى سطور قليلة ليضع نصَّه أو يقوم بأخذ صحيفتين متقابلتين لصورته بعيدًا عن نفوذ النص. وتمتلك دار الكتب المصرية بالقاهرة خمس صور ضمن مخطوط لكتاب بستان سعدي الشيرازي يُعتقد بنسبتها الوثيقة لبهزاد خاصة مع وجود توقيعه على أربع منها، وأهم هذه الصور صورة تصوِّر حادثة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز زُليخا وهروبه منها بعد أن راودته عن نفسه، وكعادة الفرس في تصوير الأنبياء غُطِّي وجه يوسف عليه السلام بهالة القديسين الشهيرة وهو ما فعله بهزاد في صورةٍ منسوبة له في نفس المخطوط، تصوِّر سيدنا رسولَ الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة المعراج، وبقية الخمس صور، واحدة تصور الملك دارا الفارسي مع راعي خيوله عندما ضَلَّ الطريق ووجد نفسه بعيدًا عن أتباعه، ووجد أمامه رجلًا ظنَّه عدوَّه، ولكن الرجل اقترب منه وأظهر له الطاعة قائلاً: إنه أحد رعاياه واشتكى للملك من إهماله لرعيته، حتى إنه لم يعد يعرفهم، ولا يعرف خواصهم. وهناك صورتان أخيرتان واحدة تصور مناظر في مسجد ما بين رجل يطلب إحسانًا وآخر يتوضأ وثالث يصلي ورابع مُنهمكًا في العبادة والتنسك ، والصورة الأخرى لفقهاء يتدارسون العلوم الإسلامية. وقد صوّر بهزاد الخطوط الرئيسية للنص ببساطة مع وصفٍ محكم للطبيعة، وتنوع بديع في رسم الشخصيات، يُمكِّن أيَّ متذوق للفنون من تمييز كل شخصية عن الأخرى بملامح مختلفة درج بهزاد على إضافتها للملوك تارةً، والبربر تارة أخرى، والفقهاء، والعامة، والخدم، إلى غير ذلك من شخصيات متنوعة تمتلأ بها منمنماته. وكما تفتخر دار الكتب المصرية بمجموعتها القيمة التي تملكها من صور بهزاد، فالمتحف البريطاني يملك أيضًا ثلاث صور تضمنها مخطوط صغير لنظامي الكنجوي الشاعر الفارسي الكبير بعنوان «الكنوز الخمسة» أو «المنظومات الخمس» وهي عبارة عن خمس منظومات قصصية، وزاد من قيمة المخطوط توقيع بهزاد الممهور بدقة ووضوح على الصور، وكذلك مجموعة مخطوطات تشستر بيتي التي تملكها الآن المكتبة المسماة بنفس اسم مليونير المناجم (الأمريكي الإنجليزي) الشهير ألفريد تشستر بيتي وهي تحتوى على صور لبهزاد تمتاز بدقتها وحرفيتها العالية من كتاب بستان سعدي. وبعد وفاة بهزاد استكمل تلاميذه مشروعه الفني وأصبحت مدرسته الفنية مميزة لها ثقلها ووزنها في تاريخ الفن، ومن الذين برعوا واشتهروا من تلاميذ مدرسة بهزاد مظفر علي، أغا ميرك، وشيخ زاده الخراساني، ومير مصور السلطان، وهم رواد المدرسة الصفوية فيما بعد الحقبة التي تلت كمال الدين بهزاد.