لم يأخذ حقُّه نقدياً منذ بداياته.. ولم يَعْنِه هذا كثيرا! فلم ينشغل يوما بغير معشوقته «الرواية»، التى منحته فرصا متجددة لتأمل «الهوية المصرية» فى تجلياتها المختلفة، وتفحُصها بمحبة عبر عصور وأحوال متنوعة. لكنه فى روايته الفريدة «عتبات الجنَّة»، لا يكتفى بالتأمل فقط، بل يتعقب، ويكشف «الخواص الحضارية الكامنة» فى «جينات» الإنسان المصري، التى تتألق عند الشدائد، وفى «الملمات القومية» الكبرى، حيث اختار زمناً مؤلما، ربما ما زلنا نعانى بقاياه إلى الآن، وهو « انكسار الثورة العرابية »، ونتائجه المفزعة، من احتلال الإنجليز لمصر، وحل الجيش، وإظلام الحياة السياسية، وتفشى الفساد، وانتشار المرابين الأجانب، والانحطاط الأخلاقي. لكن «فتحى امبابي» الذى لا تخدعه المظاهر، أخذ ينكُش تحت هذا كله، لسبع سنوات من القراءة والبحث، ليستخرج لنا قصة «إثنى عشر ضابطا وأورطتين من جنود الجيش المغدور»، الذى خانه البعض، وأمر الخديو توفيق بتسريحه، تم إرسالهم إلى «المديرية الاستوائية»بأعالى النيل، بغرض التخلص منهم، والحُجَّة الرسمية، استكشاف المنابع، ورصد تصرفات النيل، ووضع إحداثيات للنهر والبحيرات. وفى السودان تبين أن الضباط والجنود لايمثلون جيشا مهزوما، بل حضارة متخفية فى الوجدان العام، والشفرات الوراثية الخاصة، حيث طاردوا تجار الرقيق، وأفرجوا عن أبناء القبائل المختطفين من سجون النخاسين وهدموها، ودعَّمُوا المحطات المصرية على طول مجرى النهر العظيم، وصولا إلى محطة «حواش منتصر» فى الكونغو، وقاسوا أعماق النيل، وسرعة تياراته، وقاموا بزراعة محاصيل مصرية تقليدية لأول مرة فى أعماق إفريقيا. اختيارك الثورة العرابية تحديدا استوقفني، فتلك الثورة التى طالبت بالدستور والبرلمان وحياة نيابية سليمة تواطأ عليها الخونة، حتى سلَّموا مصر للإنجليز، فأغرقوها معا فى ظلام مخيف، لكنك رأيت الأمر من زاوية مغايرة ومبهرة، وهو ما يفرق دور الأديب عن المؤرخ؟ طوال الوقت أريد أن أكتب عن الماضي، وهذا يحتاج لتأصيل، وهناك أشياء جذبتنى للثورة العرابية قبلها، وأثناءها، منها اللائحة السعيدية التى أصدرها الخديو سعيد فى 1858، التى سمحت بامتلاك الفلاحين للأراضى الزراعية لأول مرة منذ 2000 سنة منذ سرقها الإغريق من المصريين، وظلوا محرومين منها لأكثر من ألفيتين، وبملكية الفلاحين لهذه الأرض تشكلت قوى اجتماعية لم تكن موجودة من قبل، والشئ الثانى المهم هو سماح الخديو سعيد نفسه بترقية العساكر المصريين إلى رتب الضباط، وهؤلاء الذين ترقوا كانوا هم قادة الثورة العرابية. وأثناء قراءتى عن الثورة وجدت كتابا بخمسين قرشا.. للمؤرخ «جميل عطية» عنوانه «المديرية الاستوائية »يتحدث عن الحكم المصرى من بحر الغزال إلى البحيرات الكبرى وشمال شرق الكونجو، وكلها كانت تابعة للحكومة المصرية، وبنيت الرواية على معلومات من ذلك العصر، وكانت مبنية على ضابط واحد تم نفيه إلى المديرية الاستوائية،إلى أن صادفتنى جملة فى كتاب آخر للأمير طوسون وعنوانه أيضا االمديرية الاستوائية» عن 12 ضابطا من جيش عرابى شاركوا فى الثورة، وتم نفيهم بعائلاتهم وأطفالهم إلى المديرية الاستوائية ولم يعد منهم جميعا سوى واحد اسمه «مصطفى العجيمي» وأغلبهم ماتوا فى القتال ضد الثورة المهدية، أو بالمرض، هذه المأساة استولت على ذهنى تماما، وكان السؤال المطروح عليهم «هل يقاتلون لصالح الدولة المدنية خاصة أنهم أبناء أول دستور يدعو لدولة مدنية؟» صحيح أن الثورة المهدية كانت ضد العثمانيين والانجليز لكنها كانت تدعو لدولة دينية. والمعلومات التاريخية عن هؤلاء الضباط كانت نادرة، فاستكملتها بمخيلة الروائي. هم خرجوا من محاكمة ضباط الثورة، تحت الاحتلال الإنجليزي، وعبروا الحدود صوب بحيرة فيكتوريا، مرورا بالخرطوم وبحر الغزال، والقبائل، والنيل على امتداده، والغابات، حيث الحياة فى بكارتها الأولى، وصولا إلى شمال الكونجو، وصادفوا قبائل، وسلَّموا المؤن للحاميات العسكرية المصرية، وكان مطلوبا منهم معرفة أحوال النيل، والفيضانات، وكميات المياه، والأعماق، ورفع قطاعات النهر وتصرفاته، وقاموا بكل هذه المهام، وغيرها الكثير. أنت منجذب إلى النيل من بداياتك، حيث كان له حضور بارز فى روايتك الشهيرة «نهر السماء» والآن يعود بقوة فى «عتبات الجنة».. فما سر هذا الغرام الكبير؟ لولا أن والدى مات وأنا صغير ما أمكننى الاقتراب من النيل ولا الارتباط به هكذا، حيث عادت أسرتى إلى القرية فى المنوفية،وعشنا فيها 4 سنوات من العاشرة إلى الرابعة عشرة، وهذه الحالة أتاحت لى رؤية النيل والناس عن كثب،مما ساعدنى على تصور رؤية الضباط فى «عتبات الجنة»للنيل فى حالته البكر الأولى، وعظمته، وحريته فى الحركة، والبرارى بشساعتها، والغابات والبحيرات والحيوانات. وأول مركب توغلت فى ابحيرة ألبرتب كانت الباخرة المصرية الخديوي»، و«لبردويل» كانت أول باخرة تصنع خطاً ملاحياً بين الخرطوم و«لادو» عاصمة المديرية الاستوائية التى تبعد عن «جوبا» عاصمة جنوب السودان الحالية 4 كليومترات تقريبا، وكانت هى والمستشفيات والمدارس فى كل المديريات، وشق الطرق والبريد والتلغراف، كل هذه المهام كانت تقع على عاتق الجيش المصرى والهيئات المدنية المصاحبة، بجانب نشر الحضارة والزراعة ومقاومة تجارة الرقيق. وتكتشف أن الجيش المصرى كان خليطا متجانسا من المصريين والسودانيين من العرب والأفارقة على حد سواء، وكان حاكم المديرية الاستوائية ألمانيا اعتنق الإسلام، والأسرة المالكة من محمد على إلى توفيق كانوا لايثقون فى أبناء الفلاحين، وسعيد كان استثناء وسطهم، لأنه سمح كما نعرف بترقى العساكر المصريين إلى ضباط,ومن هؤلاء جاء قادة الثورة العرابية. دعنى أتوقف معك أمام هؤلاء الضباط العُرابيين الذين تم نفيهم إلى المديرية الاستوائية لإبعادهم تماما عن وطنهم والخلاص منهم، فكيف تسنى للمنكسرين أن يصنعوا كل هذه التصرفات الحضارية؟ هناك شئ مهم لابد من ذكره، هذه الأشياء فعلها الضباط فعلا وليست من عندي، أى أن هذه كانت تصرفاتهم التلقائية التى حققوها على الأرض، وليست خيالا روائيا إطلاقا، بجانب إقامتهم حاميات مصرية منتظمة فى كل أقاليم المديرية الاستوائية، عالجوا أبناء كل القبائل، وأقاموا المدارس، بجوار المحطات العسكرية المصرية، على امتداد النهر، وبالعرض أيضا، على اتساع المديرية، فى عشرة أقاليم، فكل محطة كانت تضم مسجدا، ومدرسة، ولم تكن هناك ديانات فى تلك المناطق، ولهذا انتشر الإسلام فى البداية، إلى أن قاد الانجليز عمليات التبشير لضرب النفوذ المصري، أضف لهذا كله من الأعمال الحضارية , من شق الطرق، واحترام القبائل، وعدم تأليبها ضد بعضها كما فعل الانجليز لاحقا، والأهم هو ضرب تجارة الرقيق التى كانت مزدهرة آنذاك فى مقتل. وفقا لما فعلوه، وهى أشياء مذهلة، أجد ضرورة لتكرار سؤالى لتأكيد أهمية ما تطرحه الرواية.. كيف يصنع المهزوم الحضارة؟ هؤلاء الضباط كانوا يُجسِّدُون طبيعة الفلاح المصرى التاريخية، وبجانب هذا إذا وضعناهم فى السياق التاريخى الذى عاشوه سنجد بعضهم سافر إلى أوروبا فى بعثات تعليمية، واطلعوا على الحياة الحديثة ,و منها الجزء المهم الخاص بالدولة الديمقراطية والمدنية التى كانت واضحة جدا فى الثورة العرابية. والأمر الثانى اللافت أن بعضهم شارك فى حرب القِرم، وشاهدوا بداية انهيار وتفكك الدولة العثمانية الموغلة فى الاستبداد والتخلف، وهذا يضعنا أمام مجموعة من الضباط يمتلكون فكرا تنويريا، وحلموا بأن تكون مصر دولة مدنية مستقلة وديمقراطية، وعليه لا يمكن للهزيمة أن تغطى كل هذه المكونات، ولا تختزلها فى حالة الانكسار وتداعياتها، الأهم من كل هذا أنهم غاصوا فى منابع الحياة، فى النيل، حيث جذورهم، وكأن الجذور أمدتهم بمعادل موضوعى للهزيمة، فمنحتهم التوازن اللازم. كم أنفقت على هذه الرواية من سنوات عمرك، ومن القراءات فى جغرافية مكان الأحداث، والغابات والحيوانات، والبحيرات ومجرى النهر، والقبائل، لتصل إلى معلومات دقيقة يمكن ضمّها إلى سيرة الأبطال وتاريخ الحملات المصرية إلى العمق الإفريقي؟ أنفقت سبع سنوات: من عام 2007 إلى عام 2014. أعددت لكل شئ ملفا، للنيل، وللغابات والحيوانات، والقبائل، والنباتات، وتجارة العبيد، والمحطات العسكرية المصرية، معتمدا على ثلاثة كتب رئيسية، هى كتاب المؤرخ جميل عطية «المديرية الاستوائية»، وكتاب الأمير «عمر طوسون» الذى يحمل العنوان نفسه، وكتاب «النيل.. قصة حياة نهر»، إضافة لكتب أخرى كثيرة، لا أشغلك بها الآن، وعرفت تفاصيل مهمة جدا عن الأقاليم العشرة للمديرية الاستوائية ومدنها وقراها، وقبائلها، وعاداتهم وتقاليدهم، وعاصمة مملكة أوغندا وكان اسمها «ما باجا» التى أعلنت ولاءها للحكومة المصرية هى الأخرى، وكذلك كتاب «الدليل فى أعالى النيل» الذى وضعه نمساوى كان يعمل لحساب الحكومة المصرية، وقرأت باستفاضة عن القبائل التى تأكل لحوم البشر فى تلك المناطق، وبكارة الجغرافيا لأخلق المجال الحيوى للرواية الذى تحرك فيه أبطالها على ضوء من الحقائق التاريخية. وهل أوصلتك «عتبات الجنَّة» إلى نتائج سياسية مهمة بتقديرك؟ طبعا .. منها أننا ندفع ثمن تجاهلنا للسودان، وأن إفريقيا قدست عبدالناصر لأنه اهتم بها وساند حركات التحرر، وأن القوى الكبرى تلعب الآن فى مصادر حياتنا، هذه المصادر التى كانت تحت أيدينا، لكننا ارتكبنا أخطاء هائلة، مثل ترك السودان للإنجليز ليضعوا أيديهم عليه، ولاحقا تسببنا فى انفصال مصر والسودان،وكانت هناك صيغ أخرى كثيرة بديلة، وأننا يجب ألا ندعم أحدا من الدول الأفريقية على حساب دول أخرى، فلنا مصالح استراتيجية دائمة مع دول حوض النيل، وهذا يستوجب منا التيقظ دائما لدور اسرائيل. هل تعتقد أن «عتبات الجنة» يمكن أن تلعب دورا فى تقريب وجهات النظر بيننا وأشقائنا فى دول حوض النيل، والأفارقة عموما؟ هذه الرواية لو تحولت إلى مسلسل مثلا، يشارك فيه ممثلون من مصر والسودان وجنوب السودان وأثيوبيا وأوغندا يمكن أن توقظ الجميع على أهمية تاريخنا،وضرورة تعاوننا الدائم. ما سبب تسميتها «عتبات الجنة»، هل تعتبر منابع النيل ودول الحوض «عتبات للجنة»؟ كنت أشعر خلال كتابتى الرواية أننى فى رحلة باتجاه «عتبات الجنة»، عبر الجذور التاريخية الأولى، فهذه المناطق تعد قِطعاً من الجنة، النيل يبدو لك وأنت تشاهد مجراه الهائل وكأنه الثعبان الذى هبط بآدم وحواء من الجنة،أو كأنه «سدرة المنتهي»، شجرة جذورها فى الأرض وفروعها فى السماء، والناس هناك على فطرتهم الأولى، وهناك تماه فى االميثولوجيا بين النيل والبشر الذين عاشوا على ضفافه، وربما كان هذا السياق سببا فى تسمية الرواية «عتبات الجنة»، أليس النيل أول الأنهار الأربعة التى تنبع من الجنة فى الميثولوجيا، وهو الوحيد أيضا الذى يتجه من الجنوب إلى الشمال، بعكس الثلاثة الأخري. إنه يتجه نحو مصر، وهذه دلالة كبرى.