السيد القصير: الكثافة السكانية زادت من التحديات المحلية أمام قطاع الزراعة    البرلمان العربي يطالب مجلس الأمن بإلزام الاحتلال بتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية    نائب المستشار الألماني منتقدا التصرف الإسرائيلي: إسرائيل تجاوزت الحدود في غزة    مران الزمالك.. تدريبات بدينة وتأهيلية استعدادا للاتحاد    وكيل التعليم في الأقصر يتفقد لجان امتحانات الدبلومات الفنية    السودان يجدد تمسكه بمبدأ الصين الواحدة    وزير التعليم العالي يشيد بإدراج 28 جامعة مصرية بتصنيف التايمز العالمي    بعد إشارة الرئيس السيسي له.. ماذا تعرف عن نبات جوجوبا؟    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات.. ومواعيد الإجازات الرسمية المتبقية للعام 2024    الرئيس السيسي: خلط الذرة مع القمح يوفر للدولة 600 مليون دولار    الرئيس السيسي: أرجو أن تكون الجلسة المقبلة للاحتفال بمشروعات الزراعة في سيناء    إعلام إسرائيلي: مباحثات باريس ناجحة وهناك توافق على تحريك صفقة التبادل    عاجل.. تشكيل يوفنتوس الرسمي أمام مونزا في الدوري الإيطالي    شريف مختار يقدم نصائح للوقاية من أمراض القلب في الصيف    «فوبيا» فى شوارع القاهرة    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي العلمي للمقالات العلمية    نائب رئيس جامعة عين شمس تستقبل وفداً من جامعة قوانغدونغ للدراسات الأجنبية في الصين    نتيجة الصف الرابع الابتدائى التيرم الثانى 2024 فى مطروح (حكومى وتجريبى وخاصة)    أبرزهم إعلامي مصري.. أخطاء جهاز الشاباك في صور قادة حماس    «المصريين بالخارج» يطلق مبادرة مخاطر الهجرة غير الشرعية    طُلاب إعلام المنيا يُنفذون مشروع تخرج استثنائي بعنوان: "صنع في مصر"    محافظ أسيوط يكلف رؤساء المراكز والأحياء بتفقد مشروعات "حياة كريمة"    رئيس جامعة أسيوط يوجه بتوفير كافة سبل الراحة للطلاب المغتربين خلال الامتحانات    أجندة قصور الثقافة.. انطلاق أول معرض كتاب بالشلاتين واستمرار نوادي المسرح    5 أبراج محظوظة ب«الحب» خلال الفترة المقبلة.. هل أنت منهم؟    تفاصيل مالية مثيرة.. وموعد الإعلان الرسمي عن تولي كومباني تدريب بايرن ميونخ    الأزهر يشارك في اجتماع اللجنة الوطنية للصحة النفسية للأطفال والمراهقين    ضبط عامل استدرج طفلة وتعدى عليها جنسيا فى الدقهلية    خاص.. وفاء عامر في عيد ميلادها: «ادعولي أنا مكسورة وقاعدة في البيت»    الأعمال المستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. الصوم والصلاة    «أشد من كورونا».. «البيطريين» تُحذر من مرض مشترك بين الإنسان والحيوان    بث مباشر.. أسئلة لن يخرج عنها امتحان الجغرافيا للثانوية العامة    ضبط تشكيل عصابي تخصص في الاتجار بالمواد المخدرة فى المنوفية    مزايا تمنحها بطاقة نسك لحامليها فى موسم الحج.. اعرف التفاصيل    شريف إكرامي: الشناوى لم يتجاوز فى حق أى طرف حتى يعتذر    شاهد نهائي دوري الأبطال مجانا.. خريطة إذاعة مباراة الأهلي والترجي في 83 مركزا وناديا بالقليوبية    وزير الأوقاف: تكثيف الأنشطة الدعوية والتعامل بحسم مع مخالفة تعليمات خطبة الجمعة    العين الاماراتي ضد يوكوهاما.. تشكيل الزعيم المتوقع فى نهائي أبطال آسيا    علاج 1854 مواطنًا بالمجان ضمن قافلة طبية بالشرقية    وفد برلماني بلجنة الصحة بالنواب يزور جنوب سيناء ويتفقد بعض وحدات طب الأسرة    كيف تعالج الهبوط والدوخة في الحر؟.. نصائح آمنة وفعالة    مفاجآت جديدة في قضية «سفاح التجمع الخامس»: جثث الضحايا ال3 «مخنوقات» وآثار تعذيب    أكاديمية الشرطة تنظيم ورشة عمل عن كيفية مواجهة مخططات إسقاط الدول    باحثة بالمركز المصري للفكر: القاهرة الأكثر اهتماما بالجانب الإنساني في غزة    المفتي: لا يجب إثارة البلبلة في أمورٍ دينيةٍ ثبتت صحتها بالقرآن والسنة والإجماع    لأول مرة.. وزير المالية: إطلاق مشروع تطوير وميكنة منظومة الضرائب العقارية    ضبط 14 طن قطن مجهول المصدر في محلجين بدون ترخيص بالقليوبية    وزارة التجارة: لا صحة لوقف الإفراج عن السيارات الواردة للاستعمال الشخصي    وزير الري: مشروع الممر الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط يخدم الدول الإفريقية    "كولر بيحب الجمهور".. مدرب المنتخب السابق يكشف أسلوب لعب الترجي أمام الأهلي    إنبي يكشف حقيقة انتقال أمين أوفا للزمالك    برنامج تدريبى حول إدارة تكنولوجيا المعلومات بمستشفى المقطم    نهائي دوري أبطال إفريقيا.. الملايين تنتظر الأهلي والترجي    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    مباحثات عسكرية مرتقبة بين الولايات المتحدة والصين على وقع أزمة تايوان    فصيل عراقى يعلن استهداف عدة مواقع فى إيلات ب"مسيرات"    "كان يرتعش قبل دخوله المسرح".. محمد الصاوي يكشف شخصية فؤاد المهندس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلندالحيدرى
1926 -1996
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 12 - 2014

الشاعر العراقى بلند الحيدرى شاعر مظلوم. ظلمه جيله من الشعراء. وظلمه النقاد. وظلمته حياة الغربة فى المنافى المتعددة. وحتى حين تذكره الجميع يوم غيابه المفاجىء فإن كثرة الحديث عن دوره الريادى فى الحداثة الشعرية وعن خصائص شعره سرعان ما انتهت مثلما تنتهى عاصفة تهب على غير موعد ثم تهدأ فجأة من دون أن تحدد موعداً ثابتاً لهدوئها. والسؤال الذى يحيرنى هو: لماذا عومل هذا الشاعر الحداثى على هذا النحو؟
ويزداد السؤال إلحاحاً عندما نرى أن رفيقه فى العمر وفى التجربة الشعرية بدر شاكر السياب قد لقى وما يزال يلقى اهتماماً كبيراً هو بالتأكيد أهل له، ويغفل دور بلند الحيدرى الذى كان شريكاً له فى ريادة الحداثة الشعرية؟ ولن أغامر هنا فى البحث عن إجابة عن تساؤلى خشية أن تتحكم بى من دون أن أشعر اعتبارات سياسية وفكرية وأمور أخرى من الطبيعة ذاتها. لن أغامر فى الدخول فى مثل هذه الطرق الوعرة فى ميدان لست من أهل الاختصاص فيه. أقول ذلك رغم أننى لا اعتبر النقد الادبى والفني، على أهميته فى خلق معرفة ضرورية للقارئ وللمشاهد، الشكل الوحيد والقطعى فى تحديد رأيى فى القيمة الادبية والفنية لابداع الشاعر او الروائى او الفنان التشكيلى او الكاتب المسرحى او المؤلف الموسيقي، الى آخر انواع واجناس الأدب والفن والمبدعين فيها. وأستدرك على الفور لأؤكد بأن بدر شاكر السياب إنما يأتى فى الطليعة بين رواد الحداثة فى الشعر من دون ان يحتكر لوحده الدور والتأثير فى تلك الحركة الشعرية الجديدة. واذ أحاول هنا أن أستحضر بلند الحيدرى الشاعر والانسان والمثقف والسياسى فانما استند فى ما سأقوله عنه وعن ابداعه الى معرفة قديمة به تعود الى العام الأول الذى بدأ فيه رحلته الشعرية كواحد من اوائل رواد الشعر العربى الحديث. كان ذلك فى عام 1947. وكان قد صدر لبلند ديوانه الأول اخفقة الطينب فى عام 1946. وكنت قد وصلت الى بغداد فى أواخر عام 1947. وتعرفت إليه بواسطة صديقه المفكر التراثى الشهيد حسين مروة. كما تعرفت الى كل من الجواهرى وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة واكرم الوترى وصفاء الحيدرى (شقيق بلند) من الشعراء، والى عبد الملك نورى وذو النون ايوب من كتاب القصة والرواية والى نزار سليم ( شقيق جواد سليم) وخالد الرحال ونورى الراوى من الفنانين التشكيليين، والى محمد شرارة وعبد القادر البراك وابراهيم اليتيم من النقاد، وإلى محمد حسن الصورى مؤسس مجلة «الحضارة» وجعفر الخليلى مؤسس مجلة االهاتفب. ولم يكن اولئك الادباء والفنانون ينتمون الى المدرسة ذاتها فى الادب والفن. بل كانوا يتوزعون بين مدارس متعددة مختلفة فى اتجاهاتها حتى التناقض احياناً. وفى حين كان بعض هؤلاء ينتمون فى الادب والفن والسياسة الى اليسار، وإلى الحزب الشيوعى تحديدا، كان آخرون ينتمون الى المدرسة الوجودية، مدرسة جان بول سارتر وآخرين ممن سبقوه الى موقع الريادة فى الانتماء الى االوجوديةب وفى الدعوة لها فى اوروبا.
كان بلند قد شكل فى تلك الفترة مع عدد من اصدقائه «جماعة الوقت الضائع» الذين افتتحوا مقهى متواضعاً فى منطقة الأعظمية فى شمال بغداد بالقرب من امانة العاصمة وغير بعيد من مقام الامام أبى حنيفة. واعطوا لذلك المقهى اسما يتفق مع الاسم الذى اختاروه لتجمعهم هو اسم مقهى «الواق واق». فى ذلك المقهى بالذات كانوا يلتقون ويقرأون بعضهم لبعض نتاجات ابداعهم، ويتساجلون فى أمور ثقافية وحول قراءات لكتب كانت تصلهم من اوروبا من شعر ورواية وابحاث تتناول شؤونا ثقافية شتى. وكانوا يعلنون انتماءهم الى الوجودية، سواء بمعرفة كاملة من بعضهم بأصولها وجذورها، أو بمجرد الانتماء اليها من دون تلك المعرفة. وكنت أزورهم مع صديقى وقريبى نزار مروة ابن حسين مروة لنستمتع بأحاديثهم وببعض مظاهر العبث فى سجالاتهم وفى القصص التى كان يرويها كل منهم عن مغامراته. وكنت قد قرأت ديوان بلند الأول «خفقة الطين». وكان بلند هو اكثر رواد المقهى حيوية ونشاطا وعبثاً، وكان اكثرهم انتاجا. أما شقيقه صفاء فكان بوهيميا بالمعنى الكامل للكلمة. وكثيراً ما كان يقص علينا صفاء اخبار مغامراته النسائية فى المكان الذى يعرفه العراقيون، ويعرفون تاريخه. اما ابراهيم اليتيّم فكان كثير القراءة باللغة الفرنسية، وكثير التباهى بمعرفته بتلك اللغة وبالكتاب الفرنسيين وبالأخص بما كان ينشره جان بول سارتر من روايات ومسرحيات وكتابات خاصة فى الفلسفة وفى السياسة وما بينهما. فى حين ان خالد الرحال النحات ونزار سليم الشاعر والفنان التشكيلى كانا اقل كلاما واكثر ابداعا فى مجال فنهما. وكان بلند الحيدرى وخالد الرحال الاقرب الى قلبي. لذلك نشأت بينى وبينهما علاقة استمرت مع بلند وانقطعت بعد خروجى من العراق مع خالد الرحال. ولم اتعرف إلى الروائى الفلسطينى جبرا ابراهيم جبرا الذى انضم الى تلك المجموعة بعد تشكيلها إذ كنت قد غادرت العراق.
قد يكون من المفيد هنا أن أشير الى قصة بلند مع عائلته وقصته مع الدراسة التى اختلف فيها عن اصدقائه. فعائلة بلند الكردية كانت عائلة برجوازية كما يقول هو. وقد تابع دراسته الابتدائية والمتوسطة فى مدارس بغداد والسليمانية واربيل. لكنه ترك الدراسة قبل ان ينهى المرحلة الثانوية. وكان تصرفه ذاك يشير الى التناقض الذى رافقه منذ الشباب الأول بين نزعة انسانية اصيلة عنده وبين مظاهر الترف البرجوازى عند عائلته. وقد قاده تمرده ذاك بعد ترك الدراسة الى الخروج من جو العائلة ومحيطها الى الشوارع هائما على وجهه. وكثيرا ما اضطرته ظروف ذلك التمرد والتشرد الى المبيت فى شوارع العاصمة. وهو حين كان يتحدث عن ثورته تلك لم يضف سببا لذلك غير النزعة الجامحة عنده التى كانت تقوده الى التمرد. لكن تلك الثورة وذلك التمرد سرعان ما قاداه الى الانتماء الى الحزب الشيوعى فى مطالع الخمسينات، مغادراً بذلك انتماءه الى الوجودية كفكر وكصيغة حياة وكمنهج فى الابداع الادبى وفى تحديد وظيفته. ويتضح من سيرة حياته تلك، منذ أن قام بثورته الاولى وبعد صدور ديوانه الأول فى العشرين من عمره وتأسيس «جماعة الوقت الضائع» ومقهى «الواق واق»، انه كان مختلفاً فى نشأته عن السياب الذى كان طالبا فى فرع الادب فى دار العلمين. فالسياب كان منذ شبابه الأول واضح الانتماء الى الحزب الشيوعى، ذلك الانتماء الذى ادى به الى القطيعة بينه وبين عائلته. وهذا ما جعله يغيب عن مقهى «الواق واق». أما نازك الملائكة فقد كانت تنتمى إلى عائلة محافظة.
كان ديوان «خفقة الطين» أول عمل شعرى ينتمى الى الحداثة. وكان بلند بذلك سباقاً فى اعلان ولادة الشعر الحديث من الناحية التاريخية قبل نازك الملائكة وقبل بدر شاكر السياب. وتلك هى واقعة اعتبر نفسى شاهداً على حدوثها فى تواريخ صدور الدواوين الشعرية لهؤلاء الرواد الثلاثة. ورغم اننى كنت فى السابعة عشرة من عمرى إلا اننى كنت قارئاً شغوفاً للأدب فى ميادينه كافة باللغتين العربية والفرنسية. وكنت انشر بعض ترجمات لبعض قصائد ولبعض قصص قصيرة لأدباء وشعراء اجانب. وكنت امارس بعضا من كتابات وجدانية فى صحف بيروت وصحف بغداد. لذلك فإننى أزعم أننى كنت أتابع الاحداث الادبية فى تواريخ وقوعها منذ شبابى الباكر.
لن ادخل هنا فى سجال صعب حول المقارنة بين شعر الحيدرى وشعر كل من السياب والملائكة. ولا اعتقد ان المقارنة بذاتها صالحة للحكم على شاعر ضد شاعر آخر، حتى ولو كان أحدهما اكثر اصالة واكثر جودة من زميله. ولقد يكون الأهم والأجدى من الدخول فى تلك المقارنة الاقرار بأن مرحلة ما من مراحل تطور الثقافة قد تميزت بوجود عدد من رواد الأدب والفن فيها، وان أولئك الرواد قد شكلوا بأدوارهم المختلفة فيها سماتها العامة. والسمة العامة لتلك المرحلة التى نشأ فيها السياب والحيدرى والملائكة هى المرحلة التى كانت تولد فيها الحداثة فى الشعر العربى . تابع بلند كتابة الشعر فى الاعوام التى تلت اصدار ديوانه الأول فى ظروف مختلفة. وكان قد بدأ ينتقل من موقع فكرى وسياسى الى موقع آخر مختلف.
وظلت تنضج تجربته الشعرية وترتقى وتغتنى مع تحولاته الفكرية. وكانت دواوينه تشير الى ذلك التطور بوضوح. وقد صدر الديوان الثانى «اغانى المدينة الضائعة» فى عام 1951. ثم تبعه الديوان الثالث «جئتم مع الفجر» فى عام 1961. وتوالت دواوينه الواحد منها تلو الآخر حتى بلغت «احد عشر ديوانا». وهى «خطوات فى الغربة» فى عام 1965 و«رحلة الحروف الصفر» فى عام 1968، و«اغانى الحارس المتعب» فى عام 1971، وبحوار عبر الابعاد الثلاثة فى عام 1972، و«الى بيروت مع تحياتى» فى عام 1984، وبابواب الى البيت الضيق فى عام 1990، و«سدرو فى المنفى» فى عام 1996.
تشير عناوين الدواوين الى المحطات الشعرية والنفسية التى كان يمر بها الحيدرى خلال تلك الفترة الممتدة بين عام 1951 وعام 1996، العام الذى غاب فيه. وقد توقف النقاد باهتمام عند ملحمته «حوار عبر الابعاد الثلاثة» لدى صدورها. كما توقف هو عند تلك الملحمة ليقول فى الجواب عن سؤال وجهه اليه صحافى فى جريدة «الحياة» ما يلى: كانت كتابة «حوار عبر الابعاد الثلاثة» مجال دراسة طويلة وقراءات عدة. واخذت منى أكثر من عامين وأنا أكتب وأقرأ و«مهد» ويستطرد فى حديثه عن عمل ملحمى آخر كان يعده ليقول: «ومنذ سنتين أقوم بعمل مشابه لم أنته منه بعد. وهو عمل يمكن تسميته ب «القصيدة المرئية» التى تشاهد ولا تقرأ. وانا مؤمن ان شعر الكاسيت يجب ان ينتهي. ونحن الآن فى عصر المرئيات. والتلفزيون وصل الى كل البيوت. فلماذا لا نبحث عن القصيدة المرئية».
فى هذا الحديث بالذات الذى كان قد اجرى مع الحيدرى فى وقت سابق ولم ينشر الا بعد وفاته يتحدث الشاعر عن الشروط التى ولدت فيها الحركة الشعرية الجديدة معه ومع رفاق دربه من دون ان يدخل فى تحديد تلك الشروط. الا انه يقارن بين تلك التجربة فى الشعر والتجربة الأخرى فى الفن التشكيلى التى كانت تحصل فى المرحلة عينها، اذ يقول: «فعلى يد جواد سليم خرجنا بالتجربة التشكيلية من اطارها السابق المتسم بالكلاسيكية الى مرحلة جديدة تعادل فيها التراث بمفهوم المدرسة التى اكدها الواسطى فى القرن التاسع عشر. . وتجربة الحداثة الاوروبية المعاصرة. وقل مثل ذلك بالنسبة الى الهندسة. فعلى يد محمد مكية ورفعة الجادرجى خرج المعمار العراقى من اطاره التقليدى ليخرج فنهما الهندسى ما بين القيم الموروثة والمعطيات الجديدة. وهو ما حدث فى تجربتنا. وكان من الشعر الاوروبى ما شكل حافزاً للوصول الى شكلية القصيدة الاوروبية مع اصرارنا على الاحتفاظ بالايقاع التفعيلى الموروث. وهنا اقول بأن ما أخذه ابن رشد على شعرنا الكلاسيكى كان صحيحاً. أى ان الايقاع الشعرى لم يكن ليتفاعل مع مضمون الشعرية. وفى تجربتنا حاولنا جاهدين ان نواصل بين المضمون والايقاع لكى يؤكد كل منهما الآخر فى القصيدة الجديدة.
لم يفارق بلند حلمه بعراق ديموقراطي. وكان، وهو الكردى الأصل والمنشأ، يحس بالآلام التى كان يعانيها اشقاؤه الاكراد فى جبال كردستان، والآلام التى كان يعانيها اشقاؤه العرب فى كل انحاء العراق. فالظلم والقهر اللذان كانا سمة ذلك العهد من الطغيان لم يفرق بين عربى وكردى. لذلك فحين كان بلند يكتب، وحين كان يفكر، وحين كان يعبر عن مشاعره، كان يمارس كل ذلك باسم انتمائه الى العراق الديمقراطى الموحد. وهو الانتماء الذى ظل موضع اعتزازه على الدوام. وقد ساهم مع عدد من اصدقائه فى لندن بانشاء جمعية عراقية ديموقراطية. وكان ذلك التجمع يصدر مجلة «الديموقراطى»، وكان شعارها الذى يتصدر رأس الغلاف فيها هو: «من اجل غد ديموقراطى حر فى العراق». وقد شارك فى مؤتمر المعارضة العراقية الذى عقد فى بيروت فى عام 1991. وكان فى المؤتمر واضح الرؤية. وكان واضحا فى تحديد اتجاه النضال لتحرير العراق من نظام الاستبداد والنضال ضد التدخل الاميركى وضد الحصار، كهدف واحد لا يقبل التجزئة. وغادر الحياة من دون أن يفارقه الأمل فى تحقيق هذا الهدف المتعدد الأضلاع.
فى آخر لقاء بيننا فى عام 1994 فى لندن استعدنا الكثير من ذكرياتنا فى العراق وذكرياتنا فى لبنان. وكانت الشكوى عنده من بعض الامراض، الحقيقى منها والمتخيل، غالبة على أحاديثه. وكنت مع زوجته ورفيقة عمره دلال (ام عمر) نحاول قمع تلك الشكوى عنده، وتغليب الأمل على اليأس الذى كان شديد الوطأة عليه. وتابعت اتصالاتى معه بالهاتف وبالفاكس وعبر مجلة «الطريق». وفى عام 1996 توجهت اليه برسالة اطلب منه فيها باسم مجلة «الطريق» المساهمة فى محور خاص عن الشيخ عبد الله العلايلى، استنادا الى معرفته الوثيقة بالعلايلى فى اللغة وفى تاريخ الأدب. فاجابنى فى اليوم التالى برسالة اعتذار بسبب سوء وضعه الصحى، طالبا منى أن أخبر صديقنا المشترك «محمد دكرور» بأن «يعد منذ الآن فصلا عنى يضيفه الى الاجلاء الذين رحلوا قبلى الى البيت الضيق». فبعثت اليه برسالة فورية اذكره فيها بما كنا قد اتفقنا عليه من اننا نحن ابناء ذلك الجيل العتيق نختلف فى مقارعتنا للصعاب عن الاجيال التى اتت بعدنا، واننا لا نكبر ولا نشيخ ولا نستسلم لكل ما يقف فى وجهنا من معوقات. واكدت عليه رغبتنا فى أن يساهم فى المحور الخاص بالعلايلى.
فاجابنى برسالة يقول فيها: « فوالله ايها العزيز ما كان ذلك منى تمنعا، ولكنه واقع ابن السبعين، وواقع الغربة، وواقع ان الجلاوزة ما زالوا يحكمون وما يزال علينا أن نبقى منفيين فى غير أرض وارض. وبالكاد أواصل كلمة كلمة لاستمد كفاف رزقى فى هذا البلد. ومع ذلك فانت عزيز والأخ عبد الله العلايلى عزيز. فحبدا لو بعثت لى ما يمكن ان يبلل قلمى فى الحديث عنه، أى شىء عنه. فالارض هنا مجدبة بأى أثر من آثاره».
لكن ويا للأسف، فقبل ان نهيء له بعض المراجع عن العلايلى لكى نرسلها اليه، جاءنا نبأ وفاته، فوقع علينا وقع الصاعقة.
ضاق فضاء الكلمات عن التعبير عن الحزن الذى غمرنا نحن اصدقاءه. فأرسلت الى «أم عمر» بإسم أصدقاء بلند البرقية التالية: « لقد كان بلند، بالنسبة الينا، مدرسة بكاملها فى كل ما ابدع وما اعطى، وما بذل. وستظل مدرسته هذه المتمثلة فى تراثه الغنى تواصل فعلها وعطاءها».
لذلك فان بلند، الذى سيصعب علينا تصوره غائبا عنا بجسده، سيبقى حياً فينا، فى وجداننا، فى حبنا الدائم له، نحن اصدقاءه ومحبيه ومقدرى ابداعاته كلها فى ارجاء هذا الوطن الكبير. وسيبقى حياً فى تراثه وحياً فيكما ايها العزيزان الحبيبان «أم عمر» و«عمر». لكما من كريم مروة ومن محمد دكروب ومن مجلة «الطريق» كتاباً وقراءً ومناصرين، كل العزاء، وكل الحب والتضامن».
لمزيد من مقالات كريم مروَّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.