بدأت الأحزاب الثلاثة الموالية للغرب فى مولدوفا الإثنين الماضى تشكيل ائتلاف حاكم تحت قبة البرلمان القادم، بعد فوزها بنسبة 44٫6% من الأصوات فى الانتخابات التشريعية (الديمقراطى الليبرالى 19٫4% ، الديمقراطى 15٫8%، الليبرالى الإصلاحى 9،4%، وهو ما ضمن لها تحقيق الأغلبية البرلمانية فى المجلس الجديد بحصدها ما يقرب من 54 مقعدا من إجمالى 101مقعد. إلا أن المفاجأة كانت فى تحقيق الحزب الاشتراكى الموالى لروسيا نسبة 21،4%، مما يجعل منه الحزب الأكبر فى البرلمان من حيث عدد المقاعد، حيث سيشغل نحو 26 مقعدا وحده، فيما حصل الحزب الشيوعى على 17،8%، أى ما يعادل 21 مقعدا بدوره هو الآخر، وخاصة فى ظل غياب الحزب الثالث الموالى لموسكو "باتريا" عن المشاركة بعد حكم المحكمة الابتدائية وتأييد المحكمة العليا له بحظر مشاركته بحجة تلقيه أكثر من 400 ألف يورو - 500 ألف دولار - كتمويل من مصادر أجنبية لم يعلن عنها. ورغم ما تبدو عليه الصورة من ضمان الأحزاب الموالية للغرب للأغلبية البرلمانية على حساب أحزاب المعارضة الموالية لموسكو، فإن نتائج الانتخابات التى كان ينظر إليها بوصفها "استفتاء شعبيا حاسما" بالنسبة للاختيار ما بين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى أو الاتحاد الأورالي، لم تشر فى واقع الأمر سوى إلى استمرار حالة التمزق الشعبى ما بين موسكو والغرب، كونها لم تعط الأفضلية لطرف على حساب آخر، خاصة مع العلم أن تعديل الدستور يحتاج إلى موافقة ثلثى النواب - 67 صوتا - كذلك انتخاب الرئيس يحتاج إلى 61 صوتا، مما يعنى ضرورة التوافق ما بين الأحزاب الخمسة التى باتت ممثلة فى البرلمان قبل تمرير أى قرار على مدار الأربع سنوات القادمة، مدة عمل البرلمان. والأمر نفسه عكسه آخر استطلاع للرأى أجراه معهد السياسات العامة بالعاصمة تشيسيناو قبيل ساعات من بدء التصويت فى الانتخابات، الذى أشار إلى أن المولدوفيين إذا واجهوا اليوم الاختيار بين الاتحاد الأوروبى والاتحاد الجمركى الروسى سيصوتون بنسبة 39٪ للأول، و43٪ للأخير، رغم أن الرومان يشكلون نحو 78 % من سكان مولدوفا، فى حين أن الأوكرانيين والروس يشكلون حوالى 14% من مجموع السكان البالغ نحو 3،1 مليون نسمة. وفى هذا السياق، يشير الكثير من المراقبين إلى أن أحد أهم أسباب استمرار هذا الانقسام هو ما جرته الأزمة الأوكرانية من تبعات على جيرانها، حيث أنه وإذا كان هناك قطاع ينظر إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية بفضل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن القطاع الآخر ينظر كذلك إلى مدى أضرار العقوبات الاقتصادية الروسية على أفقر دول أوروبا، التى من المرجح أن تزيد بعد قرار موسكو فرض رسوم جمركية على استيراد الفواكه والخضروات واللحوم مطلع أغسطس الماضي، ودخل حيز التنفيذ فى سبتمبر، ردا على توقيع مولدوفا اتفاق المشاركة التجارية مع الاتحاد الأوروبى فى يونيو من العام الجاري، فيما يأتى حوالى ربع الدخل من تحويلات المولدوفيين العاملين فى الخارج، ومعظمهم فى روسيا، أضف إلى ذلك أن البلاد كغيرها من بلدان أوروبا تعتمد على الغاز الروسى الذى هددت موسكو مرارا بقطع إمداده. وإلى جانب العقوبات الاقتصادية، فإن التخوف الأكبر يأتى من احتمالية الرد الروسى على قرار الانضمام للاتحاد الأوروبى بضم إقليم ترانسنيستريا الانفصالى الموالى لموسكو منذ عام1990، كما حدث فى القرم، لا سيما فى ظل تقديم الإقليم لطلب مماثل بالانضمام للاتحاد الجمركى الروسي، إلى جانب إقليم جاجاوزيا الذى هدد بالانفصال فى حالة انضمام مولدوفا للاتحاد الأوروبي، مما ينذر بامتداد نيران الصراع شرق أوكرانيا إلى مولدوفا، وهو ما حذرت منه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على هامش قمة العشرين منتصف نوفمبر الماضى فى أستراليا بقولها إن : "الأمر لا يدور فقط حول أوكرانيا، فهو يدور أيضا حول مولدوفا وجورجيا"، متهمة الرئيس فلاديمير بوتين بأنه "يعول على قانون الأقوى المزعوم وينتهك قوة القانون". وتشير استطلاعات الرأى إلى أن 14% فقط من مواطنى مولدوفا يؤيدون انضمامها إلى "الناتو"، فى حين يعتبر 52% منهم أن أفضل ضمان لأمن البلاد هو الوضع الحيادي، فيما يطالب 12% بالانضمام إلى دول منظمة معاهدة الأمن الجماعى التى تضم إلى جانب روسيا كلا من : بيلاروسيا، كازاخستان، طاجيكستان، أوزبكستان، قيرغيزستان، وأرمينيا. تلك التخوفات عكستها تصريحات الساسة فى مولدوفا، حيث قال يورى ليانكا رئيس الوزراء المنتمى للحزب الديمقراطى الليبرالى إن "السواد الأعظم من المولدوفيين، بغض النظر عن هويتهم الإثنية أو لغتهم الأم، أوروبيون، فهم يطمحون إلى الانضمام مع عائلتهم الكبرى : الاتحاد الأوروبي". لكنه عاد وأكد فى ذات الوقت أن بلاده لا تنوى الانضمام إلى "الناتو"، بل ستحافظ على وضعها الحيادى كما ينص الدستور. وقال ليانكا فى مقابلة مع وكالة "إيتار تاس" الروسية يوم سبتمبر الماضى إن: "مولدوفا بلد حيادي، والحيادية بمثابة سند متين لتسوية النزاع فى ترانسنيستريا ورفع جميع مخاوف روسيا حيال مسألة الأمن". على الجانب الآخر، قال فلاديمير فورونين، رئيس الحزب الشيوعي: "نفعل ما هو أفضل لمولدوفا، ولا نرى أى تعارض بين الاقتراب أكثر من الاتحاد الأوروبى والاتحاد الجمركى الروسى كذلك". وهكذا، فلا يبدو أن نتائج الانتخابات نجحت فى حسم معضلة الانقسام والتمزق ما بين الغرب وروسيا التى تعانى منها البلاد فى ظل تخوفات اقتصادية وأمنية لم يفلح أى من الأحزاب السياسية على الساحة فى مواجهتها والحد منها أو تقديم الحلول لها، بقدر ما ساهمت توجهات قادتها فى افتقار الشعب للثقة فى قدرة الدولة على تحسين أوضاعها الاقتصادية وحماية أراضيها إلا فى ظل مساعدة خارجية من أى من الجانبين أو كلاهما، لتنضم مولدوفا بدورها إلى قائمة ضحايا الصراع المشتعل ما بين موسكو وبروكسل.