جاموسة مصرية ترنو ساكنة، وكأنها تفكر بعمق في حادث جلل، ماذا يدور في رأسها يا ترى ؟ اثارت هذه الجاموسة الشاعر والأديب الإيطالى مارينيتى. وسجل تأملاته ، في كتاب بالغ القيمة رغم صغر حجمه، اسمه « سحر مصر « لم يترجم الكتاب الى العربية للأسف ، مارينيتي علامة فارقة فى تاريخ الثقافة الانسانية، فقد أسس الحركة المستقبلية التى تركت بصماتها الحاسمة ليس فقط على مجمل الفنون الأوروبية ، وإنما على الثقافة الحديثة بأكملها ، صاغ الشاعر بيان المستقبليين الأول ونشره بالفيجارو ، في باريس 1909 ولنا كمصريين فى هذا الرجل نصيب ، فهو من أبناء الإسكندرية وعاش فيها طفولته وشبابه الأول، وقد التقيت بابنته عندما حملت الى مصر ملصقات الحركة وبعض الإصدارات والأعمال الفنية، وعرضتها بمجمع الفنون في منتصف التسعينات، وحدثتنا عن جانب مصري وانساني في حباة أبيها لم نكن نعرفه . قلب مارينيتى الكثير من الاحتمالات، واهتدى فى النهاية الى أن جاموستنا مندهشة من حيوان جديد ظهر في الأفق فجأة، حيوان سريع ينهب الأرض، ويصدر أصواتا واضواء مزعجة، وينفث دخانا كثيفا خلفه، حيوان يركض فوق عجلات مدورة تثير الاتربة، كانت الجاموسة تتدبر طريقة للتعامل مع هذا الكائن العجيب، شغلت السيارة إذا بال الجاموسة، ولكن لماذا اختار مارينيتى السيارة بالتحديد؟ ليسمح لنا أصدقاء مارينيتى بأن نترك الجاموسة وأفكارها قليلا ونتأمل أثر أفكاره هو، نظرا لصلتها الكبيرة بما يحدث لنا الآن. فقد شكل وجماعته رأس حربة في تجربة الحداثة وفى أفكارها التى غزت العقول ، كماغزت السيارات الطرق الريفية، وحولت شكل الحياة فى القرن العشرين ليتوافق مع مطالبها، كما فعل القطار بالقرن التاسع عشر،ولكن اختيارالرجل للوحش الميكانيكي كمادة للتأمل ، ليس أمرا عفويا، فهو يردنا الى تعارض أصيل في قلب تجربة الحداثة نفسها، تعارض بين الطبيعة والتقنية، بين الحياة على اتساعها، والحياة التى تخصنا كبشر نصنع الأدوات ونتقدم من خلالها ، بينما الكائنات المحيطة بنا لا تكف عن تكرار تاريخها الأول كما هو،وهذا التعارض هو الذى ندفع ثمنه الان جميعا . قادت المجتمعات الغربية تجربة الحداثة ، وكأنها أمر يخصها وحدها ، بنت قلاعا صناعية وعلمية، ووسعت التجربة الإنسانية كلها بمعدلات هائلة، ولا يمكن الشك في انجازها التاريخي، ولكن الغرب اغترف بالمثل ونهب من ثروات الشعوب الأخرى،وأشعل الحروب الكبرى، تآمر وقتل واباد شعوبا بأكملها، وحارب التنمية الحقيقية والاكتفاء الذاتى للبلاد الأخرى، بل ورحب ايضا بثروات سارقي الشعوب الفقيرة من الحكام والمسئولين الفاسدين واحتفل بهم ووظف ما نهبوه داخل دولابه الاقتصادى الجبار. وهذا هو مقتله الأخلاقي، ومصدر الريبة في كل ادعاءاته عن حقوق الانسان وعن العدالة وعن انحيازه للحرية ، إذ يبدو وكأنه يدعونا لأن نشاركه في التعامل مع الطبيعة والهوية والأخلاق بصفتهم أعداء للتقدم ،وفى القبول بأن يذعن إبداع العقل الانساني لمنطق السوق وحده. على الضفة الأخرى ، حاول المستبعدون من جنة الحداثة اللحاق بالعربة ، بنسخ التقنية والنماذج الغربية، ولكن هناك من اختار العنف، كرد انتحاري شرس على تاريخ غير منصف، وعلى نظام يضعه دائما على الهامش ،وإذا ابتعدنا عن حديث المؤامرات والعمالة والخيانة ، فإن الإرهاب هو ابن العجز عن تقديم مقترحات بديلة ، هو الماضى الأسطورى يطل برأسه مهددا بحرق ما بنته الحداثة ، هو الرد اليائس على المثال الغربي المهيمن وعلى نسخه المحلية الباهتة، منهج الثعالب التى اجبرت على البقاء خارج حدود الغابة، ولكنهم هناك متأهبون دائما للدخول من أى ثغرة للفتك بالدواجن الشاردة. وإذا كان مارينيتى ورفاقه الحداثيون قد تطرفوا فى الدعوة للمستقبل وتجاهل الماضى تماما، فإن الفكرة الإرهابية تعارض الحاضر والمستقبل معا ، لأنها تريد استعادة شكل للحياة لم تعد شروطه ممكنة ، وتم تجاوزه كلية ، ونظرا لصعوبة الحوار حول هذه الدعوة اليائسة يطل العنف كحل قريب ، العواطف الدينية الغيورة والمجروحة لا تستطيع عبر الحوار اكمال دورتها فتستدعى القوة لمواجهة أعداء تخترعهم وتبدلهم بلا هوادة ، مشاعر مغتربة عن زمانها الأصلى ، لا تملك إلا أن تبالغ فى نفى خصومها وفى الهوس بذاتها .لا تجدد خطابها بل تتمسك بحرفيته، وبما أنها ترفض السياسة ، ولكونها تضخمت داخل مجتمعات استبدادية، فإنها باسم الإسلام ترى أن تصفية الآخرين هى الحل، وهكذا علينا أن نتابع مشاهد رجال يذبحون امام الكاميرات، والاف يفرون ذعرا بما استطاعوا حمله، تطاردهم جماعات من قاطعى الرؤوس، ومشعلى الحرائق، نساء تغتصب ثم تقتل واطفال يعدمون أمام أعين الأهل . الخروج من هذا التاريخ الكابوسي، أمر بالغ الصعوبة، ويحتاج الى تضامن وجهود انسانية استثنائية، وكأننا مطالبون بحفر مجرى تاريخي مغاير، حتى لا توغل السيارة في الابتعاد والضلال، وحتى تخرج جاموستنا من نعاسها الممتد، المسئولية الأكبر هنا ملقاة على كل القوى الاجتماعية والسياسية الجادة، وعلى المثقفين وعلى مؤسسات المجتمع المدني ،وإذا لم تكن الطبيعة المعلم الجيد دائما ، إلا انها تقدم لنا أحيانا مجازات مضيئة، كما تفعل الأفيال مثلا، وهى تعطينا درسا بليغا فى التعامل مع فروق السرعات ، فمجموع الأفيال ينتقل من مكان الى آخر بمتوسط سرعة يسمح للكل بالبقاء داخل الجمع المتحرك، وليبلغ الجميع معا نقطة الوصول ، الآن وبعد مائة عام ياسيد مارينيتى كنا نود لو استطعنا أن نتقدم معا نحو حياة أكثر عدلا وإنسانية، سواء ركبنا السيارة او بصحبة الجاموسة او حتى سيرا على الأقدام . لمزيد من مقالات عادل السيوى