في ظل الهجمات المنظَّمة التي تتعرض لها البلادُ والشعوب العربية والإسلامية على كافة الأصعدة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لم تكن ثوابت ومقدَّسات دِيننا الحنيف بمَنأى عن أيدي العابثين والمخرِّبين، بل صارت وسيلةً وأداةً للهدم والتخريب وإثارة الفتن، وتصاعُد وتيرة العنف والإرهاب باسم الدين - والدين منهما براء - عمومًا، في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبةُ الانحلال الفكري والعقدي والأخلاقي، حتى وصل الأمر إلى التباهي بالإلحاد وإنكار الأديان. وانبرى بعض الدخلاء عبر وسائل الإعلام والقنوات الفضائية في الحديث عن الإسلام وأحكام شريعته، وعرضوا لأفكار وفتاوى شاذة ومتطرفة على عوامِّ الناس، واستضافت الدخلاء في هذه البرامج؛ دون مراعاة للبُعد القيمي والخلقي الذي تحرصُ عليه كافَّة الأديان، وتَضمَّنته الدساتير المصرية عبر تاريخها، فتطاول بعضهم على الدِّين الإسلامي وأحكامه وتشريعاته، دون الرجوع إلى أهل الاختصاص من علماء الأزهر الشريف؛ فهم الأقدر على شرح حقائق الإسلام والرد على كلِّ الإشكالات والشبه التي تُطرَح هنا وهناك. وحذرت هيئة كبار علماء الأزهر من تناول الآراء الفقهية الغريبة والأقوال والفتاوى الشاذة وطرحها علي عامة الناس في المنابر أو المتاجرة بها عبر وسائل الإعلام بقصد تحقيق شهرة أو نسبة عالية من المشاهدة أو القراءة، وشدد العلماء علي ضرورة تجنب إثارة هذه الأمور من قبل من يتصدون للفتوى والدعوة من أهل العلم، لما تحدثه من إثارة وبلبلة وشتات لدي المتلقين من عامة الناس، ومن ثم فإن الإصرار علي ذلك يعد نوعا من الفتنة يجب علي الدعاة والعلماء تجنبه، وذلك لان تناول الشاذ والغريب من الآراء مكانه محراب العلم وقاعات البحث فقط. وذلك حفاظا على ثوابت الأمة والنسيج الموحد للشعب المصري، وصيانة لفكر الشباب الذين هم عدة المستقبل. يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، إن إصدار الفتوى أو التحدث فى أمورها وتفاصيلها له آداب وضوابط، منها مراعاة واقع أحوال الناس وعصرهم، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فأباح للسائل القبلة فى الصيام، ثم جاءه آخر فسأله السؤال نفسه فلم يبح له ذلك، يقول راوي الحديث فنظرت للسائل الأول فوجدته شيخا طاعنا فى السن، ونظرت إلى الثانى فوجدته شابا جلدا، ومعنى هذا أن الفتيا تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. غير مستحب أما بخصوص طرح الفتاوى أو الآراء الشاذة والغريبة من العلماء خاصة من الرموز المعروفة فى وسائل الإعلام على العامة، فهذا أمر غير مستحب وليس مكانه وسائل الإعلام، وإنما مجاله أماكن التعلم والدراسة المتخصصة، وذلك لأن طرح تلك الآراء الشاذة وأيضا الأمور الخلافية على غير المتخصصين والدارسين، يسبب نوعا من البلبلة بين الناس، ويقتل فيهم إسلامهم الفطرى، كما يقتل فيهم ثوابت الدين التى تلقوها من أكابر علماء الأمة. وشدد الدكتور عبد الفتاح إدريس على من يتصدون للفتوى من أهل العلم فى وسائل الإعلام، بأن يراعوا ضوابط الفتوى وآداب فقه الإجابة عن السؤال، بحيث يقول فى فتواه بما اجمع عليه علماء الأمة، وذلك لأن الفتاوى الشاذة ردها علماء الأمة، ولم يقل بها إلا نفر قليل لا وزن لهم بالنسبة لعلماء الأمة الثقات. وأشار إلى أن الذين يثيرون الفتاوى والآراء الشاذة، إنما يتغيون بها الشهرة من منطلق «خالف تعرف»، ولهذا فان الذين يعمدون للإثارة ويقولون بهذه الفتاوى ويروجون لها، يرتكبون معصية لأنهم يفتنون الناس فى دينهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خاطبوا الناس على قدر ما يفهمون»، وقال عليه الصلاة والسلام«..من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها». شهرة ورياء وفى سياق متصل،يقول الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم، عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر فى أسيوط، إن هناك بعض وسائل الإعلام تطرح على بعض أهل العلم كثيرا من الموضوعات والأسئلة والقضايا التي تتسبب فى بلبلة أذهان العامة، كما أنهم فى هذه الأيام يلجأون إلى بعض أدعياء العلم ثم ينشرون على ألسنتهم أقوالا تصادم الدين بالكلية وتخالف أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا الأمر لا يقل خطورة عن الأمر الأول، والأمثلة فى ذلك كثيرة مثل قول بعضهم، ان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه حذف آية من القرآن الكريم، ومثل طعن بعضهم فى صحيح البخارى بأنه يشتمل على الأحاديث الموضوعة مما يعد مخالفة لأهل العلم من عصر البخارى إلى العصر الحالى. وأوضح أن الغريب فى ذلك أن من يتفوهون بذلك وتنقل عنهم وسائل الإعلام هذا الهراء لا يعرفون شيئا عن البخارى ولا عن الصنعة الحديثية عنده مما لا يعرفه إلا علماء الحديث، مشيرا إلى أن مثل هذه الأشياء وغيرها ينتج عنها صدام فكرى عند جماهير المسلمين. وأكد أن علاج ذلك يتم من خلال أمرين، الأول خاص بالقائمين على وسائل الإعلام فى ذلك الأمر، إذ عليهم ان يتوجهوا إلى أهل العلم الموثوق بهم من علماء الأزهر جامعا وجامعة، ومن علماء الأوقاف ودار الإفتاء حتى يتم تحصيل العلم من أهله الموثوق بهم، وليس من أدعياء العلم الذين يريدون بلبلة أذهان الناس من اجل الشهرة، ونحن نقول: قاتل الله الشهرة متى حلت بعمل أفقدته الإخلاص. أما الأمر الثانى، فهو خاص بأهل العلم، إذ عليهم إذا سئلوا عن مسألة ما، أن تكون فتواهم مما هو متفق عليه أو مشهور عند أهل العلم فى المذاهب الأربعة المعتبرة عند جماهير المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، ولا يقدم العالم على بعض الفتاوى والآراء الشاذة غير المعتمدة، مثل أن شيئا ما ليس مسكرا مادام ليس خمرا، لأن المتفق عليه عند جماهير العلماء أن كل مسكر ومفتر حرمه النبى صلى الله عليه وسلم، كما أنه صلى الله عليه وسلم بين أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، فالفتوى بغير ذلك مثلا تؤدى الى بلبلة أذهان الناس، فلا ينفع معها أن تقول له هذا رأى قال به فلان من الفقهاء. وأشار إلى أن العوام من الناس عندنا فى مصر وغيرها من البلاد حينما يسألون عن رأى فقهى او يسمعونه، يريدون أن يتعرفوا على الراجح فقط من الآراء، أما غير ذلك فمكانه دروس العلم فى المعاهد والجامعة الأزهرية والرسائل العلمية، وقديما سمعنا مشايخنا أنهم قرأوا لبعض السلف(حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الناس الله ورسوله)، موضحا ان كل من يخالف ذلك من اجل الشهرة بين الناس يدخل فى دائرة الرياء، ومن المعلوم ان الرياء يبطل العمل الصالح، مؤكدا ان وسائل الإعلام لو قامت بواجبها الصحيح وكذلك قام أهل العلم بما ذكرناه لتجنبنا كثيرا من البلبلة فى الأفكار بين الناس والمشاهدين والمستمعين.