كل يوم في الميعاد نفسه تقف هناك.. لا بل هنا بالتحديد عن تلك النقطة من الرصيف قرب نزلة الوكالة.. تحمل ابنها الرضيع فوق كتفها كل يوم دون كلل او ملل منها ولا منه.. تستظل به احيانا من حرارة الشمس التي تهل مع الساعات الأولى من الصباح، الساعة العاشرة تقريبا والنصف، تابعتها لقرابة الشهر لم تبعد شبرا عن هذا المكان، كأنها موظفة وها هنا مكتبها، وأدوات عملها علب مناديل معطرة، في كل مرة تقترب سيارتي منها تنظر لي فقط وهي تشاور بالمناديل، أشاور لها بالرفض، فتشاور لي بتحية ممزوجة بابتسامة صبر هادئة، وفي اليوم التالي تكرر تحيتها وأكرر مع الأسف رفضي، فلا حاجة لي إلى مناديلها، وليس لدي من الثقة تجاه نظائرها في مهنة التسول مايؤهلهم للفوز بي، لا تتكلم في أي مرة مع أي سائق، ولا تسأل الناس إلحافا، وقررت في مرة أن أكسر رتابة صمتنا وملل طول الطريق، وسألتها لماذا تقف كل يوم هنا في هذا المكان وكيف لا تتعب هي وطفلتها بالوقوف كل يوم هنا، قالت ببساطة: «هنا مكان عيشنا، وكل واحد بيحابي على صحبه في الكار، ومحدش ياخد مكان غيره ابدا، بالعكس يصونه في غيبته لحد مايرجع، بتوع الصميت واقفين بطول الرصيف عمر ماحد جه على رزق التاني، وربنا بيرزقهم كلهم بالتساوي، ياأبلة الزرق بتاع ربنا، ماتخدي مناديل بقى» ابتسمت لها ولصبرها وحلاوة لسانها، وطفلتها مازلت على يدها تلهو مع كائنات في عالمها الموازي وتضحك لهم مع نفسها، ولما وودت مساعدتها بملبغ لا قيمة له دون شراء مناديل، قالت بالبساطة نفسها: «طب تصدقي بالله كفاية ابتسامتك الحلوة دي يلا اتكلي على الله يحرسك ربنا». فتحت الاشارة ومشيت مرغمة، خوفا من ثورة العربيات خلفي، وكل مايشغل بالي بعد حوار سيدة المناديل، كم جميل أن تقابل في الدنيا من يرغمك على قولة الحمد لله، وكم هو أجمل أن ترى الصبر في وشوش ناس يزين جبينهم الرضا بالحال، «ها اشتكيت من كام حاجة انهاردة!؟» عربيتك اللي اتخبطت، وللا موبايلك اللي عايز تغير الاسكرينه بتاعته ومش لاقي الاوريجنال، وللا مهيتك اللي اتخصم منها عشان انتاجك اللي اقل، وللا زميلك اللي خد مكانك في الترقية اللي هي مجرد مسميات اصلا، وللا السبوبة اللي ضاعت منك عشان كنت بتلعب اكس بوكس امبارح ونسيت الميعاد، وللا ايه وللا ايه وللا ايه..