لم تكن العلاقات السعودية السورية يوما أسوأ مما هى عليه فى المرحلة الراهنة، والسبب باختصار قيام الثورة السورية ورد الفعل العنيف الذى اعتمده النظام السورى إزاءها. طوال عقود من التحالف القوى بين البلدين، كانت العلاقات السعودية السورية تشكل حجرالأساس فى استقرار المشرق العربى بل كانت دمشق الحليف القريب لكل من السعودية وإيران على حد سواء. وليس أدل على هذا التحالف من الرعاية المشتركة للبلدين لاتفاق الطائف الذى أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989 وكذلك جاءت مشاركة الجيش السورى فى تحالف تحرير الكويت عام 1991 لتؤكد هذا التوجه ولتبدأ صفحة جديدة من الإدارة المشتركة للملفات العربية. وفى هذا الإطار، شهد عقديّ الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى ذروة الدعم الاقتصادى السعودى للنظام السورى فى عهد الأسد الأب بما مكّن هذا الأخير من اجتياز عدة أزمات مفصلية كادت تعصف باستقراره. ومثلما كان لبنان محطة للاتفاق سابقا بين السعودية وسوريا برز كذلك عام 2005 كمحطة خلاف كبير، عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى الأسبق رفيق الحريرى والذى كان مقرباً من المملكة السعودية، وهو ما أدخل العلاقات الثنائية بين البلدين فى نفق مظلم استمر طوال ثلاث سنوات على وقع الخلافات الداخلية اللبنانية بين حزب الله الذى يرعاه المحور الإيرانى السورى وبين تيار المستقبل وحلف 14 آذار الذى حظى بالرعاية السعودية كترجمة لمحور الاعتدال العربى آنذاك. فقد كان لبنان خط التماس الأساسى الذى يلتقى عنده التنافس السعودى الإيرانى على النفوذ الإقليمي، بيد أن النظام السورى قد لعب دور الوكيل العربى للنفوذ الإيرانى مما أسقطه فى فخ العداء الصريح للسعودية وقطع خط الرجعة بخطابات نارية فرضت عليه عزلة إقليمية ودولية برعاية سعودية استمرت حتى منتصف 2008، إذ تبلورت الوساطة القطرية الفرنسية لتثمر اتفاق الدوحة لحل الأزمة اللبنانية، وتمهد الطريق لانفتاح فى العلاقات السعودية السورية وصل إلى ذروته إبان القمة المشتركة ببيروت فى أغسطس 2010. أما اليوم فالشقاق بين البلدين يختلف قطعا فى جوهره عما كان فى السابق، فالأزمة فى العلاقات الثنائية هذه المرة لم تنشأ عن تصادم للمصالح المشتركة فى بلد ثالث، بل عن مستقبل الحكم فى سوريا نفسها. وهنا لعبت السعودية دورا مهما كقاطرة للجهود العربية فى الشأن السورى، إذ تغيرت المقاربة السعودية منذ أغسطس 2011 من مجرد توجيه النصح للنظام السورى بشأن استيعاب مطالب التظاهرات السلمية إلى تحميله مسئولية الدماء التى تسيل جراء سياسته القمعية العنيفة. ومن ثم، تم استدعاء السفير السعودى من دمشق، وما لبثت دول الخليج الأخرى أن اتخذت نفس الموقف. كما لعبت السعودية دورا مهما فى دعم المعارضة السورية على المستويين السياسى والعسكرى، وهو الأمر الذى اعتبره النظام السورى تهديدا شخصيا له. وفى المقابل، كان النظام السورى قد حسم أمره منذ بداية أحداث الثورة بالاستعانة الكاملة بحليفه الإيرانى لمواجهة الثورة وتداعياتها، الأمر الذى حوّل إيران عمليا من حليف استراتيجى الى شريك أساسى ولاعب محلى على الساحة السورية. مما أغرى السعودية بخلق ودعم لاعبين مناوئين لإيران من أجل استنزاف قدراتها العسكرية فى الصراع السورى القائم. ولكن المساعى السعودية اصطدمت بالحظر الغربى للسلاح النوعى عن المعارضة السورية المسلحة مخافة وصوله الى المتشددين. غير أن التحليل المقابل يدفع بأن تأخر المجتمع الدولى فى حل الأزمة السورية والقمع الشديد الذى لاقاه الشعب السورى من جانب نظام الأسد وأذرع إيران العسكرية، هو ما أدى فعليا الى صعود المتشددين وصولا الى بسط سيطرة داعش على مساحات شاسعة من سوريا. وإزاء توازن القوى الإقليمى على الساحة السورية بين النفوذين السعودى والإيرانى، أصبح استقدام الجهود الدولية من أجل حسم المسألة أمرا ضروريا. غير أن التدخل الدولى فى الشأن السورى والذى قد بلغ ذروته بالتهديد بضربة عسكرية أمريكية فى خريف 2013 ردا على استخدام السلاح الكيماوي، ما لبث أن تم استيعابه دبلوماسيا بمشاركة روسية فاعلة قادت الأمور نحو التهدئة وعقدت اتفاق لتجريد الأسد من سلاحه الكيماوي. تلاقى المصالح بيد أن الطارئ الجديد على الساحة الإقليمية والذى تمثل بصعود داعش أعاد الحاجة إلى تدخل دولى نوعى يساعم فى إصلاح ما أفسده تجاهل المجتمع الدولى لتداعيات الأزمة السورية. وهنا كانت مشاركة السعودية كدولة سنية كبيرة فى التحالف الدولى لمواجهة داعش بمثابة الغطاء الشرعى المطلوب لتسويغ الضربات الجوية على معاقل التنظيم فى العراقوسوريا. ورغم أن مقولة مكافحة الإرهاب - التى كان النظام السورى هو الأسبق فى رفعها ضد الثورة السورية- قد سادت بالنهاية مشفوعة بحشد دولى كبير لمواجهته، إلا أن ذلك لا يعنى بالضرورة أن المحصلة النهاية لهذه الحرب ستكون لصالح الأسد. وبالمثل فإن تلاقى مصالح دول الإقليم كافة على محاربة خطر داعش الصاعد لا يعنى أن الشقاق الإقليمى بشأن الثورة السورية سيزول. ولذا فالسعودية قد حسمت أمرها بعدم التعاون مع المحور الإيرانى السورى فى شأن محاربة داعش، فيما تجنبت الضربات الجوية للتحالف معاقل الأسد وقامت باستهداف معاقل داعش حصرا. وفى المقابل، حاول نظام الأسد أن يظهر بمظهر الشريك المحتمل للتحالف الدولى ضد داعش كى يضمن لنفسه حماية دولية فى حال البت فى مستقبل الأزمة السورية. لكن الرفض الأمريكى والأوروبى كان حاسما فى هذا الشأن وجاء فى قدر كبير منه بناء على الموقف السعودي. فبكل تأكيد، تمثل السعودية كدولة سنية كبيرة فى المنطقة مكسبا أهم للتحالف الدولى من أى تعاون محتمل بين التحالف ونظام الأسد. تحول تكيفي ورغم أهمية الحرب على داعش فى التأثير على المشهد الإقليمي، لكن التحولات الأبرز المتعلقة بالتصعيد والتهدئة ستظل رهينة لنتائج المفاوضات النووية بين إيران والغرب. إذ أن التوصل لاتفاق مبدئى فى هذا الشأن قد يُفضى الى رفع العقوبات الدولية عن إيران ويفتح المجال التدريجى لتطبيع العلاقات معها وتغليب لغة التفاوض والتفاهم على لغة الصدام فى حل كافة المشكلات الأخرى وأبرزها الشأن السوري. وفى هذا الإطار، ستكون السعودية مضطرة لمواكبة التوجة الغربى بالانفتاح التدريجى على إيران عبر قبول حل سياسى للصراع السورى قائم على تقاسم السلطة والثروة بين طرفى الصراع، سواء كان بالإبقاء على شخص الأسد أو من ينوب عنه فى وراثة ما بقى من نظامه جنبا الى جنب مع استيعاب المعارضة المعتدلة ضمن هياكل السلطة الجديدة. وهنا يمكن قراءة الجولة الأخيرة لمبعوث الأممالمتحدة ستيفان دى مستورا الى سوريا ضمن هذا الإطار، إذ اجتمع بكل من الأسد وممثلين عن المعارضة المحلية فى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لصياغة حلول تدريجية تقضى بفرض هدنة جزئية تسمح بنقل مساعدات انسانية فى المناطق الواقعة تحت الحصار أو المتضررة من القتال. ووفقا لهذا المنطق، فإن هذه الاتفاقات الجزئية قد تتكرر فى عدة مناطق بما يمهد الطريق لحل يشمل الرقعة السورية بأكملها وينهى الصراع ويفتح المجال لتنظيم الخدمات الأساسية فى المناطق السورية كافة بشكل مستمر وليس مجرد نقل المساعدات إليها كل حين. لكن فى المقابل إذا ما فشلت المفاوضات النووية بين إيران والغرب أو تعثرت لأى سبب كامن فى التفاصيل، فلا يمكن حينئذ التأكد من استمرار عزوف ضربات التحالف الدولى عن استهداف النظام السوري. وهنا يمكن القول أن المرحلة الاولى من ضربات التحالف قد حققت مكاسب استخباراتية بحكم إطلاعها جوا على معاقل الأسد وتكوين بنك أهداف يمكن استخدامه لاحقا إذا ما تم اتخاذ قرار التصعيد العسكرى ضد النظام السوري. ولكن هذا السيناريو المشفوع بفشل التفاوض النووى مع إيران يصطدم حتما بالدور الروسى الذى لن يقبل بحسم المعركة فى سوريا ضد النظام السوري. موازين متحركة وتبعا لذلك، لا يمكن القول إن السعودية تملك الوسائل اللازمة لاستمالة روسيا الى صفها أو تقديم تطمينات سياسية أو وعود بصفقات عسكرية. فالالتزام الروسى تجاه النظام السورى قد اكتسب بعدا جديدا مرتبطا بشكل وثيق بالأزمة الأوكرانية، فسوريا أصبحت اليوم بمثابة ضمانة جغرافية لصالح روسيا ضد مشاريع إيصال الغاز العربى الى أوروبا، الأمر الذى يضمن لروسيا الاستمرار فى مساومة أوروبا بالشأن الأوكرانى مستندة الى احتكارها لامدادات الغاز الذى لا يمكن لأوروبا الاستغناء عنه. ومن هنا، فإن جنوح السعودية ومن ورائها أمريكا الى التصعيد العسكرى ضد نظام بشار الأسد سيصطدم حتما بالإرادة الروسية التى تسعى للحفاظ على حليفها فى دمشق بما يمنع كسر احتكارها لتوريد الغاز إلى أوروبا. ولذا، يكتسب إعلان النظام السورى مؤخرا عن طلبه التزود بصواريخ روسية مضادة للطائرات أهمية خاصة فى هذا الشأن ويكشف عن إدراكه لهشاشة وعد الجانب الأمريكى بعدم استهداف معاقله حين يفرغ من أو بالتزامن مع استهداف معاقل داعش. النموذج الضبابي وبين خياريّ التهدئة والتصعيد، يبدو المشهد أقرب للتطور وفق النموذج الضبابى أو نموذج النصف حل، بحيث تستمر المماطلة الإيرانية فى الشأن النووى مع الغرب، بما يطيل مرحلة الترقب فى المنطقة دون حسم. وهنا تبدو ضربات التحالف بمثابة التهيئة التدريجية للتربة السورية لمواكبة هذا النموذج عبر إقصاء العناصر المتشددة – وتحديدا تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» - بالعمل العسكري. وبموازاة ذلك يتم استثمار حالة الترقب فى قيام السعودية - بمساعدة فنية من الغرب وخاصة أمريكا - باستيعاب ودعم العناصر المعتدلة من المعارضة السورية عبر تزويدها بالتدريب والسلاح اللازم وتهيئتها للعب دور فاعل فى إدارة مستقبل الحكم بسوريا. ومن هذا المنطلق، يراهن النظام السورى على دعم إيرانى وروسى غير مشروط ليبقى الحال على ما هو عليه، بل قد ينخرط بشكل فعال فى مبادرات الوساطة المختلفة لكسب المزيد من الوقت وإرهاق الوسطاء بالتفاصيل دون طائل. بينما تراهن السعودية على الدفع بقوى جديدة للتغيير على الأرض، تكون أكثر قدرة على إقناع الغرب بخوض معركة تغيير الأسد دون الخوف من تداعيات إسقاطه على مصالحها الإقليمية وأمن المنطقة، وهو ما يجعل خيار المصالحة بين دمشق والرياض مستبعدا، إن لم تحدث متغيرات لم تكن فى الحسبان.