شهدت مصر منذ عملية كرم القواديس منحني جديداً بالعمليات الإرهابية. إذ لا يكاد يمر يوم دون أن تشهد تصعيداً في طبيعة ومضمون تلك العمليات الممنهجة التي باتت أقرب لحرب الشوارع هدفها إيقاع الخصومة بين جناحي الأمن (الجيش والشرطة)، وإبراز عجز الدولة وقلب الرأي العام عليها. وبعد عملية دمياط، وما تلاها من عرض لفيديو “ أنصار بيت المقدس “ فإن أهدافاً أخري، تتمثل في الوقيعة بين أفراد الجيش نفسه وتأليب الجنود علي قيادتهم لعجزهم عن توفير الأمان، وبث الرعب باستدعاء طبيعة العمليات المنفذة ومقارنتها بما تمارسه داعش التي أعلنوا عن مبايعتهم لها. ومخطئ من يظن أن هذا التصعيد يأتي بصورة عشوائية، بل تصعيد ممنهج وفقاً لإستراتيجية محددة، وتحديدا حال الربط بينه وبين تزايد الدعوات علي مواقع التواصل الاجتماعي للثورة الإسلامية في 28 نوفمبر الحالي، وما يزيد من العجب أن الداعين لها يأتون من مشارب مختلفة، فالجبهة السلفية تتصدر الواجهة كداع رئيس لها فيما يدعمها من راء الستار حركة 6 أبريل وتيار الاشتراكيين الثوريين وحزبي مصر القوية الوسط وقوي سلفية ما عدا حزب النور.
وتلاقي تلك القوي بقدر ما يثير من علامات تعجب، بقدر ما يؤكد علي أن مصر تخضع لحرب من نوع جديد، تعرضت لها دول كثيرة في العالم، حرب جري تعريفها بأنها حرب الأشباح كجزء من “إستراتيجية البركان والحرب القذرة. وأول من لفت النظر إليها الكاتب الأمريكي ستيف كول تطبيقاً علي الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق، فيما أصل لها عربياً المفكر العراقي مهند العزاوي ووضعها كجزء من إستراتيجية البركان للتفجير الذاتي للدول، وهدم عامود الدولة الحامل لها ويتمثل في قواتها المسلحة. ومن ثم فهي تستهدف البني التحتية الاجتماعية والسياسية للدولة المراد إخضاعها وتدميرها أو الهيمنة الشاملة عليها, ويتم ذلك عبر إثارة الفتن وإذكاء الاحتراب العرقي والطائفي باستخدام ورش عمل وتنظيم مؤتمرات وبرامج تدريبية مصنعة في أروقة أجهزة المخابرات المعادية وتتصف بطابع عرقي وطائفي حاد لتشكل أدوات الصراع وأقطاب الاحتراب المهيأة لهذا الغرض.
تنفذ عمليات هذه الحرب بأداء نوعي، وتكون البداية دوما تطبيق ما يطلق عليه (حرب اللاعنف), وتستخدم حرب الأشباح كوسيلة أساسية وأحيانا بديلة لترميم الفشل وتعزيز الضغط وكسر الإرادات. وحال فشلها في تحقيق أهدافها، تلجأ تلك القوي لإثارة الفوضي واستنزاف قدرات الدول للعمل علي؛ إرباك ساحة العمليات ومحاور التفوق وخلط الأوراق؛ تأمين مادة إعلامية بعمل عسكري مخابراتي فعال، لغرض تعزيز محاور الحرب الإعلامية علي الصعيد الدولي أو الإقليمي، وشد الأنظار إليه والتمويه وصرف النظر عن محور آخر لوقت محدد؛ الوصول بالمجتمع إلي اليأس عبر عمليات نوعية في غاية الدقة، ودوائر العملاء وشبكات التجسس؛ الربط المباشر وغير المباشر مع التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود والمرتزقة وعصابات الجريمة المنظمة لتحطيم مفاصل الدولة المستهدفة, وخلق الفوضي والدمار الإنساني.
وتعتمد هذه المرحلة من حرب الأشباح علي عناصر أهمها: التوقيت؛ المكان, الموقع, الدولة؛ نوعية وقيمة الهدف؛ نوع الأزمة والتأثير المطلوب إحداثه؛ الرسالة الموجهة والمطلوب إيصالها. كما ترتكز تلك الحرب علي دقة المعلومات واستباق الوقت بغرض مباغتة واستهداف الخصم, واستثمار الثغرات الأمنية وذوي النفوس الضعيفة الذين يرتزقون ويمتهنون هذه المهام للعمل ضد أوطانهم, وقد تكون هذه الحرب بين قوي غير متوازنة وأخري متوازنة في كافة الأصعدة. كما وتستند علي عناصر محترفة ومدربة تجيد التنفيذ دون ترك أي أثر يدل.
ماهية أكاديمية التغيير وحرب اللاعنف.
تظل حرب اللاعنف المدخل الرئيس لخلخلة أركان الدولة، واستخدمت بالمنطقة العربية في إطار مشروع التغيير وإعادة بناء الشرق الأوسط الذي رعتها الولاياتالمتحدة. وكانت اللبنة الأولي للمشروع الأمريكي لتقسيم وتفتيت المنطقة، وحال فشلها مؤقتاً كما في الحالة المصرية بعد ثورة 30 يونيو، فيتم التحول لإستراتيجية البركان للتفجير الذاتي للمجتمع مع استمرار الحشد من قبل المتدربين علي حرب اللاعنف علي إعمال آلياتها، ومن المعروف أن التكتيك الأمريكي تجاه المنطقة العربية قد شهد تحولاً فارقاً مؤخراً بحيث لا يتم من خلال تواجد قواتها علي الأرض، وإنما من خلال تعاونها مع أنظمة حليفة لها وعملاء غير مباشرين تم تدريبهم علي تفعيل هذه الآليات.
وكانت البداية مبكرة وتحديداً عام 2004 عندما أنشئت أول مؤسسة تهدف لتدريس فنون التغيير بالمجتمعات التي تعاني القهر السياسي والاجتماعي. وحسب التعريف الوارد بالصفحة الرسمية للأكاديمية فإنها مؤسسة علمية بحثية عربية الهوي عالمية النشاط، تهتم بتزويد العقل بأدوات الفعل الاجتماعي والسياسي ليكون قادراً علي ممارسة التغيير والتحول الحضاري. فكان أن تأسست “أكاديمية التغيير” في لندن مارس عام 2006. ثم تأسس فرع الدوحة 6 سبتمبر 2009 وهو الفرع الذي جُمد نشاطه في يونيو2010، وأغلق في يونيو 2012، ثم تأسس فرع فيينا في 1 مايو 2010، ومن يبحث خلف مؤسسي أكاديمية التغيير يجد مفارقات عديدة. إذ نجد ثلاثة من الشباب المصري من المؤسسين الأوائل للأكاديمية، أهمهم وأخطرهم الدكتور هشام مرسي مؤسس ورئيس أكاديمية التغيير وهو زوج ابنة الشيخ يوسف القرضاوي وعلاقاته ممتدة ومتشعبة بالمسئولين بقطر ودول الخليج. وفي الخلف، يقف القطري الإخواني جاسم بن سلطان الذي روج لمفهوم النهضة، والذي تحالفت معه السلطة القطرية.
وفي أعقاب ثورة 25 يناير، بدأ الحديث يتردد كثيراً عن تلقي مجموعات من شباب الثورة لتدريبات علي ما يسمي بالكفاح السلمي وحرب اللاعنف، وبدأ الكثيرون يشعرون بأن الثورة لم تكن وليدة الصدفة وإنما سبقتها تدريبات وتخطيط. ولم تتوقف الأكاديمية عن تقديم الدورات التدريبية بل تعلن من حين لآخر عن تنظيم كورسات في حرب اللاعنف مستمرة حتي الآن، والأكثر خطورة هو سفر مجموعة كبيرة من الشباب المصري إلي تركيا مطلع ديسمبر القادم لتلقي دورة تحت مسمي “دور جيل التغيير”.
وبغرض نشر أساليب حرب اللاعنف، وضعت الأكاديمية كتبا حول النشاط السلمي من بينها كتب (حلقات العصيان المدني) و(حرب اللاعنف. الخيار الثالث) و(زلزال العقول) و(الدروع الواقية من الخوف)، هذه الكتب تتضمن شرحاً مكثفاً لوسائل إسقاط النظم ومعارضة الحكومات والتصدي للشرطة والتدريب علي الاعتصام المدني والإضراب والحشد وتوظيف التكنولوجيا الحديثة في الثورات. ومن ثم، تقوم أكاديمية التغيير بتدريب الشباب في الدوحة وفيينا وعبر الانترنت، وتحت عناوين كثيرة منها أفكار الثورة، وأفكار للثوار، وكيفية التعامل مع القوي التقليدية، وتكتيكات التفاوض، وأسلوب رفع سقف المطالب، وتنفيذ خطوات العصيان المدني، وإبراز بعض المعاني الرمزية مثل : حمل المصاحف وإضاءة الشموع ودق الطبول وحمل الأعلام الوطنية.
لم تكن قطر مجرد وكيل أو حليف لأمريكا بالمنطقة، بل هي عنصر أساسي في نجاح المشروع الأمريكي. ففي مطلع فبراير عام 2006، عقد في الدوحة “منتدي المستقبل”، لم المنتدي ليس سوي حلقة نقاش وإعداد للمؤامرات من قبل المخابرات الأمريكية، حيث تبين أن هناك مشروعاً قطرياً أمريكياً يعد علي هدوء، قوامه التحفيز علي الإصلاحات الديمقراطية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني. وبعد جهد طويل خرج ما يطلق عليه “مشروع مستقبل التغيير في العالم العربي” وتم توزيع المهام. قطر تعمل علي جانب الإسلاميين، وأمريكا علي الجانب المنفتح من الشباب الليبراليين.هذا التعاون أثمر كثيراً في تحفيز الشباب علي قيادة التغيير باستعمال أدوات الإعلام الحديث والتواصل الالكتروني الاجتماعي. وأصبحت قطر صاحبة الدور الأهم، لأنها الدولة التي تتحدث العربية فدولة مثل تركيا شريكة في هذا المشروع، ولكن دورها يختلف عن دور قطر ومسألة اللغة والثقافة عامل حاسم في هذه الخطة. فالدور القطري كانت مهمته الرئيسة تعريب المشروع الأمريكي، حتي لا يبدو وكأنه مؤامرة علي المنطقة، بل حركة طبيعية ذاتية تسعي وراء التغيير..
يكمن الهدف من تلك الحرب تمزيق النسيج الوطني عبر إثارة الحرب الجيلية، والمقصود بذلك هدم قيم المجتمع وخلق جيل جديد لا يعول كثيراً علي خبرات من سبقوه ولا يهتم كثيراً بثوابت دولته الوطنية، ويتم حضه علي مقاومة القانون وعدم احترامه بحجة أن مشروعية حق الشباب تتفوق علي شرعية القانون. أما الهدف الأكثر خطورة، استهداف المؤسسة العسكرية، عبر إفقاد المواطنين الثقة فيها، وخلخلة الثقة داخل المؤسسة بين الجنود والقادة.
والتعامل مع هذه التهديدات، يتطلب إستراتيجية إعلامية تعتمد علي المهنية والموضوعية، إعلام يعلي ويقدس المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوطن، إعلام حرب يعيد تشكيل الرأي العام لتبني الثوابت الوطنية وتقويتها بدلاً من إعلام يتسابق لتفسير أي حادث إرهابي قذر دون توفر معلومات بما يؤدي إلي بلبلة وتشويش الرأي العام. كما أن الدولة مطالبة بتطبيق حاسم وعادل وناجز للقانون لفرض هيبتها دون مراعاة لأي اعتبارات أو ضغوط من هنا أو من هناك.