هناك العديد من القضايا الأساسية فى المجتمع التى يجب التأكيد عليها وإيضاح تداعياتها على الفرد والمجتمع خاصة فى تلك المرحلة الواعدة والمهمة من تاريخ الأمة المصرية. ولعل أهم تلك القضايا هى قضايا التعليم وتراجع بل وانعدام دور الطبقة المتوسطة والمثقفة كطبقة مهمة كانت هى عماد التطور الحضارى والتنمية الثقافية والفكرية وفى جميع المجالات عامة. وفى هذا المجال نؤكد أنه لا تنمية فكرية وعطاء ثقافى وعلمى دون تنمية وبناء الركائز الأساسية لنهضة المجتمع الاقتصادية والحضارية، ولعل ما أصاب المجتمع من ضمور فى إمكانات وقدرات الطبقة المتوسطة على العطاء وتغير نسيجها القيمى والحضارى ما هو إلا تعبير واضح على انهيار مقومات المجتمع فى تحقيق العدالة الاجتماعية فى توزيع الثروات الوطنية وسيادة نظام اقتصادى عالمى استهلاكى قائم على محاربة مفردات الاقتصاد الوطنى ليس فقط فى مجالات الصناعة والتجارة والزراعة بل فى مفردات الثقافة والفكر وبصفة خاصة محاربة منظومة التعليم الأساسى والعالى وتفتيت سماته وتقسيمه إلى تعليم وطنى حكومى وتعليم خاص متعدد الاتجاهات. ولعل التاريخ الاجتماعى والثقافى والفكرى عامة فى مصر يؤكد أهمية الربط بين تحديث الفكر والتعليم ونشأة الطبقة المتوسطة التى تكونت فى ثنايا حركات الاصلاح الاقتصادى و الاجتماعى والثقافى التى بدأت منذ بدايات القرن التاسع عشر كبداية لنهضة المجتمع المصرى بعد عناء أربعة قرون من الفقر والجهل والمرض عاشها المجتمع المصرى تحت الحكم العثمانى. ومثلت مجهودات التحديث الفكرى والاقتصادى والعلمى أهم مرتكزات للمشروع العبقرى لمحمد على والذى لم يكن ليكتمل إلا من خلال إنشاء المقومات الأساسية للتعليم الأساسى والعالى القائم على الفكر الحديث والمتطور فى مختلف المجالات العلمية والإنسانية، وأصبح التعليم منذ تلك الفترات البعيدة أحد أهم الركائز فى نشأة الطبقة المتوسطة المثقفة والمنتجة للفكر والعلوم والآداب والفنون بجميع ألوانها، طبقة وجدت منذ الربع الثانى من القرن التاسع عشر تربة اقتصادية وفكرية مؤاتية لتولى العديد من المناصب والوظائف الإدارية فى مجالات الصناعات الناشئة فى الريف والمدن وفى مجالات التربية والتعليم، والمناصب والوظائف الأخرى الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. وأصبحت مصر من أولى دول الشرق الأوسط بل ومن أهم الدول التى كُونت بمجهود وطنى وقومى فكرى وعلمى طبقة متوسطة من المفكرين والعاملين فى وظائف الدولة. وبالرغم من هذا العطاء وما حققته من قفزه نوعية فى المجتمع الذى استمر حتى أواخر الستينات من القرن الماضى خاصة فى مجالات التربية والتعليم الأساسى والعالى ومنظومة البحث العلمى والفكرى فلا يعنى ذلك أو يؤكد أن الطبقة المتوسطة المصرية قد حافظت على عملية التطور والعطاء الفكرى والحضارى وذلك للعديد من الأسباب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، والتى أثرت على العديد من المكتسبات حيث تهاوت منظومة التعليم والتطور، كما تفتتت الطبقة المتوسطة وتغير نسيجها خاصة الاجتماعى والفكرى والاقتصادى وتراجع عطاؤها. وأثر ذلك على تغير الوجه الحضارى للمدينة والقرية وأصبح المجتمع المصرى يعيش سلسلة من الممارسات الأخلاقية والسلوكية العشوائية خاصة بعد أن تراجعت الأسس التى بنيت عليها القيم الاجتماعية والثقافية؛ فيكفى أن نرصد الأفعال والأقوال والسلوكيات والمفردات اللغوية الهابطة ليس فقط فى الشارع المصرى بل نفاجأ بها وبصورة فجة فى المدرسة والجامعة؛ وكل ذلك يؤكد أن المجتمع المصرى يعيش عصر نكسة فكرية وسلوكية وهى فى الأساس إنعكاس لتدهور نظم التعليم والبحث العلمى الناتج من تفكك وتدهور الطبقة المتوسطة وتآكل مواردها المادية والثقافية وذلك على مدى أكثر من أربعة عقود مضت أحدثت مما نحن فيه من أزمة أخلاقية وثقافية وعلمية ظهر إنعكاسها فى مضمون المناهج التعليمية والبحث العلمى فى الجامعات والمؤسسات التعليمية المختلفة فأصبح التعليم الجامعى مجرد شهادة يحصل عليها الطالب مفرغة من قيمتها العلمية والفكرية وذلك نتيجة لتلك المناهج الخالية من الدراسات النقدية التكاملية التى تحلل القضايا من جميع جوانبها وتداعياتها وتأثيرها المباشر وغير المباشر على الفرد والمجتمع حيث تختزل الواقع الأليم الذى يعانى منه المجتمع ونظمنا التعليمية فى المناهج العلمية وأصبح التعليم الأساسى والعالى منه غير قادر على تلبية احتياجات الإنسان التاريخية والفلسفية والتربوية والعلمية المتطورة خاصة فى عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات فأصبح مردود تلك النظم وعائدها الفكرى والاقتصادى غير كافٍ للتطور والنهوض بل يؤدى إلى مزيد من التدهور. وهناك العديد من الأسباب لهذا التراجع الحضارى نجملها فى نقطتين: أولاً: تدنى مكانة المدرس الإجتماعية والمادية نتيجة للأوضاع الاقتصادية الخانقة للمعلم، أدت إلى آثار نفسية خطيرة فاتسع الهوه بين الأجور والأسعار والتحرك البطئ لأجور العاملين فى الدولة جعلت الموظف لا يعتمد على وظيفة واحدة بل يجعله يلهث وراء أى مورد إضافى للرزق، ولعل الدروس الخصوصية فى التعليم الأساسى والثانوى أحد المظاهر السيئة للعلم والمعلم. وتختلف تلك الظاهرة فى التعليم الجامعى ومجالات البحث العلمى ومؤسساته حيث تأخذ صوراً أخرى من الممارسات الضارة ولعل أهمها التعدى على تخصصات الأساتذة الأصيلة واسنادها لأساتذة غير متخصصين حتى يزداد العائد المادى من توزيع الكتاب الجامعى. وأصبح التسابق والقفز غير القانونى فى ظل غياب تطبيق قانون الجامعات ومواده والتعدى على الملكية الفكرية للأساتذة الأصيلة من الظواهر المسيئة لأخلاقيات البحث العلمى حتى فى أعرق الجامعات أصالة وتاريخ ممتد. وأدى كل ذلك إلى النيل من مكانة المعلم والأستاذ الجامعى كأحد أعمدة الطبقة المتوسطة المثقفة وإنهيار مقوماتها؛ وأصبح لتلك الظواهر أصداءً اجتماعية وسيكولوجية نفسية وإنحرافات تتخذ صوراً متعددة قد تؤدى إلى مزيد من إنهيار على مستوى الأسرة والمجتمع وإنتاجه الفكرى والعلمى فمحاربة المعلم فى المدرسة والأستاذ الجامعى أصبح من أقوى والأخطر والأشرس لمحاربة العقول فهى حرب داخلية صامتة وخطورتها أنها غير مرئية ومحسوسة. فعن طريق الشللية والتكتل تمرر أفعال تسئ إلى منظومة التعليم والبحث العلمى الموضوعى. ثانياً: أدى تراجع وغياب عطاء الطبقة المتوسطة فى مجالات الفكر العلمى والعطاء الثقافى الأدبى والفنى المستنير إلى ظهور هذا التدهور الكبير فى مضمون الإعلام والثقافة والفنون المختلفة خاصة الدراما التليفزيونية التى كان يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً فى مسيرة التنمية بدلاً من أن تصبح أداة من أدوات الثقافة والفنون الهابطة فى يد فئة لا تعى قيمة الوطن وكيفية الحفاظ على ثرواته البشرية والحضارية ولا تعى قيمة فنون مصر وثقافتها العريقة والمبدعة التى تحققت بمجهود وطنى على مدى قرنين من الزمان، بدلاً من أن يترك الإنتاج الثقافى والفنى فى يد سلطة الإعلانات التجارية وشركاتها الدولية لتتحكم وتسيطر فى منظومة القيم والأخلاق. ولعل هناك من الآثار العديدة لتلك الظواهر المثيرة، آن الأوان أن نبدأ فى تصحيح المسار خاصة ونحن فى ظل نظام جديد يسعى بكل الوسائل لتحقيق النهضة والتقدم الفكرى والثقافى والاقتصادى والسياسى فلا يجب التباطؤ فى تفعيل استراتيجية تكاملية لتصحيح مسار الفكر العلمى والإنتاج الثقافى والإعلامى، فالفترة أصبحت مواتية الآن ونحن نخطو خطوات أكيدة وحاسمة فى المجالات الاقتصادية المتعددة لرفع قدرة الاقتصاد القومى على تلبية احتياجات التنمية البشرية الحضارية والثقافية والتربوية إيماناً بأنه لا يمكن أن يتحقق العائد الاجتماعى والاقتصادى من الاصلاحات فى التعليم والتربية بمستوياتها إلا من خلال منظومة العمل والأجور التى لن تتحقق إلا من خلال نهضة اقتصادية صناعية وزراعية دافعة لتنمية الخدمات المختلفة فى المجتمع. ألا يدعو كل هذا أن يصبح تطوير وإصلاح التعليم المصرى أهم المشروعات القومية الكبرى حتى تتحقق التنمية الشاملة؟.. أستاذ الأعلام بالجامعة الأمريكية لمزيد من مقالات نسمة البطريق