كشفت المؤتمرات واللقاءات التى جرت فى الفترة الأخيرة عن "برود وتحفظ" عدد من الزعماء الغربيين تجاه العلاقة مع الرئيس فلاديمير بوتين، إلى جانب حقيقة وأبعاد ما ينسجه له خصومه من مؤامرات تستهدف بالدرجة الأولى الإطاحة به وبنظامه. ولم يكن بوتين بغافل عن هذه المؤامرات والتوجهات التي تتواصل حتى اليوم تحت ستار "الأزمة الأوكرانية" ، وهو ما يظل حديث الداخل والخارج . فى قمة العشرين التى انتهت أعمالها فى وقت سابق من هذا الأسبوع تصدرت الأزمة الأوكرانية اهتمامات المشاركين فى القمة، خصما من رصيد الموضوع الرئيسى، وهو الأوضاع الاقتصادية والمالية فى العالم . وكان بوتين تعرض لسيل هائل من هجوم خصومه ممن استبقوا القمة بسلسلة من التهديدات التى طالت بعضها شخص الرئيس الروسى، وهو ما تكسرت نصاله على وقع "صمود ثعلب الكرملين" وما يطرحه من أسانيد، وإن حاولت كل الأطراف المعنية عدم الكشف عن تفاصيل ما دار من مباحثات خلف الأبواب المغلقة. تركز هجوم الخصوم حول ما يصفونه بعدوانية الكرملين ورغبة روسيا فى التوسع على حساب جيرانها تمهيدا لاستعادة "الاتحاد السوفيتى السابق"، وكلها اتهامات سبق وفندها الرئيس الروسى فى أكثر من لقاء ومناسبة. ولذا لم يتوقف بوتين عند ذلك طويلا، مفضلا اللقاءات الثنائية على الاجتماع العام لقمة العشرين. وكان التقى نظيره الأمريكى باراك أوباما على هامش قمة بكين لرؤساء بلدان آسيا والمحيط الهادئ، وهو اللقاء الذى لم يسفر على ما يبدو عن النتيجة المرجوة. ومن هنا كانت أهمية لقاءات بوتين مع عدد من أصدقائه وحلفائه من زعماء مجموعة "بريكس"، التى تضم إلى جانب روسيا كلا من الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، فضلا عن لقاءاته مع "خصومه" الرئيسيين وفى مقدمتهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند، ورئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون. ورغم أن ما اُميط عنه اللثام من نتائج لهذه اللقاءات لا يخرج فى معظمه عن القوالب العامة التى سبق وتناولتها كل الأطراف المعنية، إلا أنها كشفت عن نتائج جديدة قد يكون أهمها ما قاله بوتين حول "أنها أتاحت لهم التعرف على رؤيته لما يجرى فى أوكرانيا والعالم، ووفرت له الفرصة للتعرف على رؤى الآخرين تجاه هذه القضايا". وكان بوتين سارع بمغادرة بريسبين الأسترالية قبل انتها أعمال قمة العشرين ، فى بادرة لا تخلو من مغزى، وإن حاولت مصادر الكرملين تصوير الأمر بأنه لا يعكس "موقفا"، فيما فسره بوتين بأنه يعود إلى ارتباطاته فى موسكو صباح الإثنين، وأن الرحلة تستغرق تسع ساعات حتى فلاديفوستوك فى الشرق الأقصى الروسى، ومنها تسع ساعات أخرى حتى العاصمة موسكو . ومع ذلك فقد حرص بوتين على أن يقول كلمته قبل أن يغادر القمة من خلال مؤتمر صحفى أوجز فيه رؤيته ونتائج ما جرى من لقاءات مع نظرائه على هامش القمة. وأشار الرئيس بوتين إلى أن "ان هذه الاضطرابات لن تستمر طويلا فى حال التمسك بمبادئ القانون الدولى، واحترام مصالح الآخر، أما إذا تواصلت محاولات حل كل المسائل لصالح هذا أو ذاك فسوف يكون التكهن بأمد هذه الاضطرابات أمرا صعبا". وأضاف أن الأزمة الأوكرانية لم تكن مطروحة خلال أعمال القمة الرسمية، لكنها أثيرت خلال لقاءاته الثنائية مع نظرائه المشاركين فى هذه القمة، وبما سمح للأطراف المعنية بتفهم مواقف الآخر. وأعرب عن أمله فى انفراجة قريبة للأزمة، مشيرا إلى أن "الأوضاع هناك توحى بآفاق طيبة، رغم كل ما يبدو مغايرا لذلك". وكشف الرئيس الروسى عن انتقاداته للرئيس الأوكرانى بيترو بوروشينكو بسبب قراره حول فرض الحصار الاقتصادى حول مناطق جنوب شرق أوكرانيا. وقال إن ذلك سوف يزيد من تفاقم المشكلة. وحول رؤيته للأزمة الأوكرانية والحلول المناسبة لها قال بوتين فى حديث إلى قناة تليفزيون "أيه آر دى" (ARD)الألمانية، "بضرورة عدم النظر إلى هذه الأزمة من وجهة نظر أحادية". أكد الرئيس الروسى "أن موسكو لا تريد ولن تسمح للقائمين على أمور السلطة فى أوكرانيا بتصفية خصومهم فى جنوب شرق أوكرانيا، ممن يتطلعون إلى التخلص من تسلط الذين فرضوا سيطرتهم على العاصمة الأوكرانية، ويرغبون فى توطيد علاقاتهم مع الأشقاء والأقارب فى روسيا ". أما عن مستقبل أوكرانيا فقال بوتين “ لا حل لهذه المشكلة إلا من خلال إقرار نظام الفيدرالية فى أوكرانيا . لا بد من إقرار الحقوق المتكافئة لكل مواطنى أوكرانيا .. أوكرانيين كانوا أو روسا أو بولنديين . لا بد من توفير الظروف الملائمة لبدء الحوار السياسى مع جنوب شرق أوكرانيا ". وأعاد بوتين إلى الأذهان التركيبة الإثنية المتباينة الأطياف لأوكرانيا وظروف نشأتها، فى إشارة مباشرة إلى كونها قامت على أراض روسية وبولندية ومجرية. أما عن دعم روسيا العسكرى للمقاتلين فى هذه المناطق فقد أوضحه بوتين بقوله :" إن القتال يدور فى شرق أوكرانيا الآن. وقد أرسلت السلطة المركزية الأوكرانية الجيش إلى هناك، وتستخدم حتى الصواريخ البالستية".وأعرب بوتين عن مخاوفه من احتمالات أن تساور البعض الرغبة فى ممارسة عمليات "التطهير العرقى"، والتحول نحو تبنى ما وصفه ب"النازية الجديدة". حمل الرئيس الروسى كما أكد فى كل لقاءاته الثنائية على هامش قمة العشرين على واشنطن وحلفائها، ممن تفرغوا لكيل الاتهامات لموسكو دون أن يبذلوا شيئا لإقناع القيادة الأوكرانية أو الضغط عليها لتنفيذ ما وقعته من اتفاقيات فى مينسك، ولا سيما فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، وإطلاق عملية الحوار المباشر مع خصومها فى جنوب شرق أوكرانيا. ولعل ذلك يمكن أن يكون دعوة مباشرة مفتوحة إلى الجميع من أجل إعادة تقدير الحسابات ومراجعة المواقف، تأكيدا لما قاله إن الأوضاع الراهنة تؤثر سلبا على كل الأطراف المعنية الداخلية والخارجية، وتفرض ضرورة سرعة تجاوز الأخطاء وبدء الحوار السياسى بين الأطراف المباشرة للأزمة ، للتفرغ من أجل مواجهة الأخطار والتحديات الدولية والإقليمية، والتى يقف الإرهاب الدولى بمختلف أشكاله فى صدراتها.