من الألغاز الغريبة التى لم أتوقعها كدارس لآسيا أن تتخذ ماليزيا سياسة معادية لمصر بعد ثورة 30 يونيو انتهت بها لأن تذهب إلى اجتماع مجلس حقوق الإنسان فى جنيف أخيرا، لتقف فى صف تركيا وإسرائيل فى انتقاد ملف مصر، وتتبنى ذات الخطاب الاخوانى رغم التاريخ الطويل للعلاقات المصرية الماليزية. كنت قد تتبعت هذا الخيط بعد ثورة 30 يونيو، حين ذهبت إلى ماليزيا (واندونيسيا) موفدا من وزير الخارجية المصرى آنذاك نبيل فهمى لكى أشرح ما حدث فى مصر لمسلمى الدولتين. لاحظت فى ماليزيا نبرة عداء لمصر وصلت الى حد المظاهرات التى نظمها اخوان ماليزيا أمام سفارة مصر، وقيام محاضير محمد رئيس الوزراء السابق بعمله المفضل وهو البكاء علنا حزنا على شهداء رابعة. وقد سبق أن قام بالبكاء العلنى حين قرر ترك رئاسة الوزارة. كذلك قامت حكومة ماليزيا بسحب الطلاب الماليزيين الذين يدرسون فى الجامعات المصرية وهو الأمر الذى لم تفعله اندونيسيا. لم أتوقع تلك السياسة العدائية من ماليزيا لأننا فى مصر قمنا بخدمات جليلة للماليزيين أبرزها استضافة طلابهم فى معظم جامعاتنا، وإنشاء برنامج الدراسات الماليزية فى جامعة القاهرة (بناء على رجاء من مهاتير محمد ذاته)، وهو البرنامج الأنشط على مستوى البرامج المماثلة فى العالم حيث مثل نقطة انطلاق للتعريف بماليزيا فى الوطن العربى وأفريقيا. من خلال مناقشات مكثفة مع الأصدقاء الماليزيين فهمت أن هناك عاملين يستتران خلف هذا الموقف. الأول هو أن حكومة نجيب رزاق فى ماليزيا تتمتع بأدنى أغلبية فى التاريخ لحكومة ماليزية فى البرلمان منذ الاستقلال. فالائتلاف الحاكم حاصل على 133 صوتا فى البرلمان مقابل 89 صوتا للجبهة الشعبية ، وتضم الحزب الاسلامى الماليزى (تيار اخوان ماليزيا) وله 21 مقعدا. ومن ثم فالائتلاف الحاكم فى حاجة الى أصوات الحزب الاسلامى الماليزى لدعم الحكومة. ومن ثم فان نجيب رزاق قرر مجاملة الحزب أملا فى حصوله على دعم الحزب فى البرلمان. صفقة انتخابية بحتة ، ولكن على حساب مصر. أما العامل الثاني، فهو أن محاضير محمد ذاته وبعد أن ترك الحكم أقام صلات مالية مع جماعة الاخوان المسلمين فى مصر( رغم سجله فى العداء للحزب الاسلامى الماليزى بل ولتيار الاسلام السياسى حينما كان فى الحكم) ، وكان خيرت الشاطر، نائب المرشد الاخوانى قد زار محاضير فى ماليزيا فى أبريل سنة 2012 وحضر محاضير بدعوة منه فى يونيو سنة 2012 للمشاركة فى مؤتمر الحزب السياسى للاخوان. أثناء تلك الزيارة عقد مع الجماعة صفقات مالية لصالحه وصالح عائلته، وفى اطار تلك الصفقات زار القيادى الاخوانى حسن مالك ماليزيا حيث التقى بمحاضير مباشرة دون ابلاغ السفارة المصرية. وكان مقررا أن يحضر محاضير الى مصر فى نوفمبر سنة 2013 لاتمام الصفقات. لكن تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن. فقد جاءت ثورة 30 يونيو لكى تطيح بأحلام محاضير محمد فى صفقاته مع الاخوان. قال لى بعض الماليزيين ان محاضير لم يكن يبك على أبناء رابعة ولكن على الصفقات التى ذهبت مع الريح بدليل أنه لم يذرف دمعة واحدة على قتلى ميدان السلام السماوى فى بكين بل انه أيد حكومة الصين. القاسم المشترك الأعظم بين كل ذلك هو محاضير ذاته. فهو وثيق الصلة برئيس الوزراء نجيب رزاق، ويعمل على دعمه من خلال مجاملة اخوان مصر وبالتالى اخوان ماليزيا. فى مناقشاتى مع الإعلاميين الماليزيين قلت لهم اننى أستغرب أن تدعو ماليزيا الى عقد دورة طارئة لمؤتمر وزراء خارجية دول منظمة التعاون الاسلامى لمناقشة موضوع رابعة. فهذا يعد تدخلا صريحا فى الشأن المصرى يتعارض مع أحكام ميثاق المنظمة. قلت لهم أن لماليزيا سجلا غير أبيض فى مجال التعامل مع تيارات الاسلام السياسي، ومظاهرات حركة بيرسيه، بل مع الحركات الداعية الى الانفصال عن ماليزيا فى ولاية صباح، وأن مصر لم تفكر أبدا فى دعوة منظمة التعاون الاسلامى الى مناقشة تلك المسائل رغم أنها تستطيع أن تفعل ذلك. قلت لهم أننا كنا نتوقع من حكومة نجيب رزاق الرأى والنصح والدعم، لا التشهير. وأن تتفهم ان مصر كدولة محورية فى العالم الاسلامى كانت على وشك الانهيار تحت حكم الاخوان، وأن الاخوان هم أول من بدأ فى مهاجمة جيش مصر حين هاجموا دار الحرس الجمهوري. ومن المهم أن أشير الى أن الفضل يرجع الى الرئيس الاندونيسى السابق سوسيلو بامبانج الذى اتصل بنجيب رزاق وطلب منه سحب طلبه لعقد الدورة الطارئة للتعاون الاسلامي، وذكره بأن مصر وقفت الى جانب اندونيسياوماليزيا بصلابة فى مرحلة النضال من أجل الاستقلال. كما قامت السعودية بدور فى ردع نجيب رزاق عن طلبه الذى ينتهك أحكام الميثاق. رغم الموقف العدائى الماليزى فان مصر لم ترد بموقف مماثل. بل تفهمت الدوافع وحرصت على تنقية الأجواء بين الدولتين. وهنا أود أن أشير الى أنه رغم سحب الطلاب الماليزيين فان الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة استجاب بكل ترحيب لطلب وزير التعليم الماليزى بأن تجرى امتحانات الطلاب الماليزيين المقيدين فى جامعة القاهرة فى ماليزيا، حفاظا على مستقبلهم. وهو ماحدث بالفعل. كما استمرت جامعة القاهرة فى دعم برنامج الدراسات الماليزية والذى مازال يباشر أعماله. ولكن حكومة نجيب رزاق استمرأت استثمار صبر المصريين فذهبت الى جنيف لكى تهاجم سجل مصر فى مجال حقوق الانسان. ويدعونا ذلك الى طرح سجل ماليزيا ذاتها فى مجال حقوق الانسان. وهناك الكثير مما يمكن قوله فى هذا الصدد لعل من أهمها سجل حكومات ماليزيا المتعاقبة مع حركات الاسلام السياسى ومنها قيام حكومة مهاتير بحل حركة دار الأرقم (ذات التوجه الاسلامي) سنة 1994 والقبض على رئيسها محمد الأشعرى وحظر الحركة، ثم قيام حكومة عبد الله بدوى سنة 2006 بالقاء القبض على مائة من أعضائها بتهمة محاولة احياء الحركة، وفى 30 أبريل 2013 تم القبض فى مطار كوالالمبور على 13 عضوا فى دار الأرقم بتهمة الانتماء الى هذا التنظيم المصنف على أنه ارهابي. الأخطر من كل ذلك هو تعامل حكومة نجيب رزاق مع حركة الاحتجاج الشعبية على عدم نزاهة الانتخابات المسماة حركة بيرسيه والتى نظمت أضخم مظاهرة قوامها 300 ألف نسمة فى 30 أبريل سنة 2012 (متأثرة بثورة 25 يناير فى مصر) فى أكبر ميادين كوالالمبور. وردت الشرطة الماليزية بعنف لايتناسب مع المظاهرات السلمية كما قال تقرير لجنة تقصى الحقائق مع ادانة من المراقبين الدوليين مما اضطر نجيب رزاق الى تأجيل الانتخابات البرلمانية بعد أن تأكد من أنه سيخسرها. أستطيع أن استطرد فى بيان سجل حكومة ماليزيا. لكن الغريب أن تلك الحكومة هى ذاتها التى ذهبت الى جنيف لتدين مصر لحسابات انتخابية محلية ومكاسب مادية اخوانية بحتة. إننى على يقين أن مصر لن تبادل حكومة ماليزيا مثل تلك السياسات العدائية. فالصلات التاريخية بين الشعبين وثيقة، وستستمر تلك الصلات رغم سياسات نجيب رزاق. وقد لمست بنفسى عمق تلك الصلات الشعبية خلال زيارات متعددة لماليزيا. وليس لنا أى تحفظ على سياسات نجيب رزاق أو مهاتير. لكن على مصر أن تجهز منذ الآن ملفاتها لمناقشة ملف ماليزيا أمام مجلس حقوق الانسان فى جنيف. فليس من العقل أن يكون بيتك من زجاج وتلقى الحجارة على غيرك. لمزيد من مقالات محمد السيد سليم