فى 3 أبريل الماضى تسلم نجيب عبدالرزاق رئاسة الوزراء فى ماليزيا خلفا لعبدالله بدوى، وأصبح بذلك رئيس الوزراء السادس منذ الاستقلال سنة 1957. وهذا التحول ليس مجرد تغيير فى شخص رئيس الوزراء ولكنه مؤشر مهم على تحولات أخرى قادمة فى ماليزيا عبر عنها بدوى بقوله: «إن ماليزيا على أعتاب منعطف تاريخى»، وإن الحزب الحاكم يواجه معركة «حياة أو موت»، قاصدا احتمالات انهيار حزب الآمنو الذى ظل يمثل تاريخيا الرابط القومى بين أعراق المجتمع الماليزى. كان عبدالله بدوى قد تسلم السلطة سنة 2003 خلفا لمحاضير محمد. وفى سنة 2004 أجرى بدوى أول انتخابات برلمانية فى عهده فاز بها الائتلاف الحاكم المسمى «الجبهة القومية» وحزب الآمنو بنسبة 91% من مقاعد البرلمان، وهى نسبة لم يحصل عليها محاضير محمد، مهندس النهضة الماليزية. وكان ذلك بمثابة تصويت لصالح الأجندة الإصلاحية لعبدالله بدوى، فيما يتعلق بالحريات العامة والقضاء على الفساد. وهكذا حصل بدوى على أكبر تفويض شعبى فى تاريخ ماليزيا. وكان من أبرز أعماله رفع شعار «الإسلام الحضارى»، كما فتح المجال لقدر أكبر من الحريات العامة.. بيد أن بدوى لم يستطع أن يطبق الأجندة الإصلاحية التى جاء بها كما اتهم بالمغالاة فى سياسة تمييز المالاى على الصينيين والهنود فى إطار ما يسمى منذ سنة 1969 «بالسياسة الاقتصادية الجديدة». كما شاعت عنه روايات عن محاباة أبنائه وشرائه قصرا فى مدينة بيرث الأسترالية ذهب بنفسه لتدشينه. وجاء رفع أسعار البنزين بنسبة 41%، فى دولة منتجة للنفط، ليؤدى إلى التراجع الأكبر فى شعبية بدوى. وأخيرا فقد تعمد فى مارس سنة 2008 إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، بحيث تتم قبل شهر واحد من خروج أنور إبراهيم من السجن، بحيث لا تتاح له الفرصة للترشيح فى تلك الانتخابات. وقد عاقبه الناخبون على هذا السجل بتوجيه أكبر لطمة تلقاها حزب الآمنو فى تاريخه. فقد خسر الحزب أغلبية الثلثين التى تمتع بها تاريخيا فى البرلمان، كما زاد عدد مقاعد حزب العدالة الذى يمثل أنور إبراهيم من مقعد واحد إلى 31 مقعدا. وبسبب ذلك بدأ محاضير فى مهاجمة عبدالله بدوى وطالبه بالاستقالة. كان بدوى قد شرع فى تطبيق برنامج تنموى يختلف عن برنامج محاضير أساسه التركيز على التنمية الريفية أكثر من المشروعات الصناعية الكبرى، ومن أهمها صناعة السيارة الماليزية بروتون. كما أعفى رئيس مجلس إدارة شركة بروتون الذى عينه محاضير، بل أعفى الأخير نفسه من منصبه كمستشار للشركة، وسمح باستيراد السيارات الأجنبية المنافسة، كما قام بإلغاء مشروع إنشاء كوبرى يربط بين ماليزيا وسنغافورة، كان محاضير قد خطط لإنشائه دون موافقة حكومة سنغافورة. القاسم المشترك الأكبر فى هذه القضايا هو تعديل مسار تجربة محاضير. ويبدو أن محاضير لم يتحمل هذه التحولات، فبدأ فى توجيه اتهامات إلى عبدالله بدوى بالفساد ومحاباة أبنائه فى العقود الحكومية، كما اتهمه بالتخاذل أمام سنغافورة حين ألغى مشروع إنشاء الكوبرى، وبالتدخل لمنعه من الالتقاء بالجمهور الماليزى من خلال الضغط على المؤسسات الماليزية لعدم دعوته للحديث أمامها، مشيرا إلى أن الدولة قد تحولت إلى «دولة بوليسية». وقد كان ذلك كله من العوامل التى أدت إلى الكارثة السياسية التى حلت بحزب الآمنو فى مارس سنة 2008 والتى حمل محاضير سلفه بدوى مسئوليتها، وقام على إثر ذلك فى 19 مايو الماضى بالاستقالة من الحزب. وفى مؤتمر الحزب فى نوفمبر الماضى اضطر بدوى إلى إعلان تنحّيه عن رئاسة الوزراء وترشيح نجيب عبدالرزاق خلفا له، وهو ما مثل تطورا غير متوقع؛ ذلك أن استقالة محاضير وأنصاره من الحزب كانت تعنى خلو الساحة أمام بدوى للفتك بخصومه من خلال اتخاذ قرارات صارمة ضدهم. ولكن لأن بدوى رجل تقى متواضع ومسالم، فلم يستثمر الفرصة، وآثر الاستقالة من رئاسة الوزراء على الفتك بخصومه. وأذكر أننى أثناء زيارة لمدينة قنجر عاصمة ولاية برليس شمالى ماليزيا سنة 1999، وأثناء عودتى إلى الفندق الوحيد فى المدينة الصغيرة، شاهدت بدوى يجلس بمفرده فى ردهة الفندق دون حراسه (وكان وزيرا للخارجية آنذاك)، ودار بيننا حوار لمست فيه تواضعه وحسه الدينى العميق. وطلب منى فى نهاية المقابلة بإبلاغ سلامه إلى وزير خارجية مصر آنذاك عمرو موسى. استقال بدوى وجاء نائبه ومرشحه نجيب عبدالرزاق ليحل محله. ونجيب هو ابن عبدالرزاق الحاج، ثانى رئيس وزراء لماليزيا بين عامى 1970 و1976، وخدم كوزير للدفاع ووزير للمالية ثم نائب لرئيس الوزراء. وقد جاء الرجل ببرنامج يقوم على استعادة شعبية الآمنو عن طريق إعادة عناصر غير المالاى التى صوتت ضده فى انتخابات سنة 2008، وإخراج ماليزيا من الأزمة الاقتصادية من خلال برنامج الحوافز الاقتصادية وقيمته 16.2 بليون دولار، الذى قدمه للبرلمان فى مارس الماضى ولكن نجيب تولى منصبه وسط حملة انتقادات موجهة إليه من أنور إبراهيم، بأنه ضالع فى إعادة اتهامه بتهم أخلاقية لمنعه من ممارسة السياسة، كما أن هناك اتهامات له بوجود علاقة بينه وبين المواطنة المنغولية شاريبوجين آلتانتويا، التى اتهم أيضا بالضلوع فى قتلها سنة 2006 على يد مساعده باجيندا لإخفاء المعلومات التى كانت تعرفها عن العمولات التى دفعتها وزارة الدفاع فى عهد نجيب فى صفقة شراء الغواصات الفرنسية. ويمكن القول إن فترة حكم نجيب عبدالرزاق ستشكل منعطفا مهما فى السياسة الماليزية، وإن مضمون هذا المنعطف سيعتمد على خمسة عوامل. أولها مدى قدرة نجيب على الحصول على تأييد محاضير محمد، حيث ما زال الأخير قادرا على أن يقوم بدور «صانع الملوك» فى ماليزيا. وقد لعب دورا مهما فى الإطاحة ببدوى. وثانيها مدى قدرته على توفير محاكمة عادلة لأنور إبراهيم بعد توجيه اتهام أخلاقى ثان له بعد انتصار حزبه فى انتخابات سنة 2008. أما ثالث تلك العوامل فهى أنه نتيجة لبقاء حزب الأمنو فى السلطة منذ سنة 1957 فإن الحزب قد ترهل وفقد ثقة الناخبين فيه. وقد حذر بدوى فى خطابه الوداعى من أنه ما لم يقم الحزب بإصلاح حقيقى فأنه قد يخسر الانتخابات القادمة. وإذا حدث ذلك، وهو أمر محتمل لأول مرة فى تاريخ ماليزيا، فأنها ستعود إلى عهد الاضطرابات العرقية الدامية التى سادتها سنة 1969، وستضيع سنوات التنمية الماليزية. كذلك فإن نجيب يأتى إلى السلطة وسط أزمة مالية عالمية انعكست على ماليزيا فى شكل تراجع الصادرات فى دولة تعتمد إلى حد كبير فى ازدهارها على تلك الصادرات. أما العامل الأخير فهو مدى قدرته على توسيع نطاق الحريات العامة، إذ يتوقع الكثيرون أنه سيحكم بشكل مركزى تسلطى يقمع المعارضة، خاصة أن آخر عمل قام به، قبل وصوله إلى الحكم، كان هو الإطاحة بالحكومة المنتخبة فى ولاية بيراك. وفى كل الحالات فإن ماليزيا، النموذج الذى تحتذى به دول العالم الثالث، أمام منعطف خطير سيؤثر بشكل جوهرى على مجمل التجربة الماليزية.