تصيبنى الدهشة كلما التقيت أحدا من زملاء الدراسة، فالتحولات التى طرأت على وجوههم وقوامهم الممتليء أراها غير مبررة، وكأنى أنظر إلى المرآة الحقيقية، التى تقول الحقيقة عما يفعله الزمن بنا وتخفيه المرايا التى نتطلع إليها كل يوم، ولا تخبرنا بالتغيرات البطيئة التى تحدث كل صباح، وتبقى على صور الطفولة والشباب كما هى فى أعيننا حتى تصعقنا الشيخوخة بمكرها، بإحدى علاماتها، فينطق حالنا بأفضل ما أعرف عنها، ما قاله (أبو العتاهية) من خبر مجون الشباب وزهد الشيخوخة فيقول: بكيت على الشباب بدمع عينى فلم يغنى البكاء ولا النحيب، فيا أسفا أسفت على شباب.. نعاه الشيب والرأس الخضيب، عريت من الشباب وكنت غضا.. كما يعرى من الورق القضيب، فيا ليت الشباب يعود يوما، فأخبره بما فعل المشيب!. أراد أحد الأطباء الكبار أن يطمأننى على حالة (أمي) المريضة، بأنها طبيعية فى هذه السن، فخلايا المخ تبدأ فى الانهيار التدريجى من سن ال (30) فى دورة طبيعية لكل البشر، فأقلقنى عليها وعلى نفسي!، فالشيخوخة لا مفر منها، وأثبت العلماء أن الشيخوخة تبدأ أبكر مما نتخيل، بسبب انخفاض إنتاج صفائح (المايلين) الضرورية للجهاز العصبى المركزى للإنسان، وكل ما يستطيع العلم هو طرق لتقليل هذا الانخفاض، بحميات غذائية ضرورية، من الأفضل أن تبدأ فى الشباب، تتضمن المعادن والزيوت وأحماض دهنية أساسية، للحفاظ على سلوك صحى عبر الحياة، لمنع شيخوخة معذبة بالأمراض وانخفاض كتلة العضلات التدريجي، الذى يبدأ هو الآخر من سن (30)، فمن الشباب تبدأ عملية الإعداد لشيخوخة نشطة وصحية، أما الروح المعنوية العالية والروح الإيجابية غذاء الشيخوخة الحقيقى الفعال، فهو ما يبدأ من الطفولة، التى تخزن سعادتها لإمداد الشيخوخة بما ينقصها من موارد البهجة والاستمتاع بالدنيا! فعلى سبيل المثال كان خالى (نبيه) رحمه الله، يقص علينا أنه ذات صباح وهو يجلس فى شرفة منزله الريفى يرتشف القهوة المصحوبة بمزهرية تحمل يوميا (فلة) يانعة من حديقة المنزل، فرأى طفلة صغيرة تتجول فى الحديقة، تتنقل بين أحواض الزرع المزينة بالزهور والورود والفل والياسمين، وتمسك كل زهرة، وتتأملها، وتقترب منها بلطف لشمها، ثم تتركها وتذهب لغيرها، وتطبطب عليها، كأنها تناجيها، فأخذ يتابعها حتى يرى أى الأزهار تقطف، ونهاية الرحلة الصباحية بين النباتات والجرى وراء الفراشات، فاكتشف أن التواصل والارتواء النفسى فقط كان هدف الصغيرة، فأضافت نقاء إنسانيا على نقاء الطبيعة، بث فيه سعادة مريحة، لازمته حتى شيخوخته، وكلما التقى الطفلة، وحتى أصبحت مقبلة على الشيخوخة هى الأخري، يروى هذه القصة ضاحكا ليقتسما السعادة، التى تزداد كلما توزعت على أكبر عدد من الناس، فالسعادة معدية، وكلما كثرت قصص الطفولة السعيدة، هانت وحشة الشيخوخة الكئيبة. القصص السعيدة من صنع أيدينا، وأروعها أبسطها وأنقاها، حتى جعل (الله) سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة صدقة، فكل كلمة وفعل وإحساس طيب، يمثل المخزون الإنسانى الذى يشكل كيان الإنسان، ويعيش داخله ويقويه عند ضعف خارجه، فدائما ما نجد الشيوخ لا ينفكون يحكون ذكرياتهم حتى الملل،مما يولد الرغبة الدائمة فى الهروب من سماع حكاياتهم المعادة، إلا أنها بالنسبة لهم هى غذاء شيخوختهم، فكلما امتلكوا قصصا تحكى مسيرة الحق والخير والجمال فى حياتهم، تحولت هذه القصص إلى رضا عن النفس، والشعور بالأمان، والاستعداد للقاء الله سبحانه وتعالى برضا فى حياة أبدية، فى السعادة المطلقة فى رحاب الله! الشيخوخة مثلها مثل أمور الحياة (فن)، وعندما يخلو أى عمل من الفن، يفقد متعته وجوهره، وهذا الفن مرتبط بالشخص فى حد ذاته، ومرتبط بالمجتمع والبيئة المحيطة به، فالشيخ المسن يحس بوطأة الشيخوخة المحملة بالمتاعب البدنية والنفسية وفقد القدرة والأحباب، حسب قدراته النفسية، فى التعامل مع هذه الصعوبات بفنون الحياة المتاحة لتجديد قدراته على السعادة والخير بما تبقى له من قوة بدنية ونفسية، أما المجتمعات فتقاس مدنيتها بمدى اهتمامها بالفئات الضعيفة، من الأطفال والشيوخ والنساء والأقليات، فالمجتمعات المتحضرة تولى هذه الفئات الاهتمام والرعاية لتضمن لكل فئات المجتمع الدعم اللائق بالحضارة والحياة العقلانية الرشيدة، وتحرص هذه المجتمعات على تقديم الدعم اللازم لإطالة متوسط العمر الصحى والقدرة الوظيفية للشيوخ، كمورد اقتصادى لأنفسهم ولمجتمعهم، خاصة بعد ارتفاع متوسط عمر الإنسان من 40 عاما فى أزمنة سابقة، إلى ما يقرب المائة مع التطور الطبي! فن الشيخوخة لازم لصحة الفرد والمجتمع، وإتقان هذا الفن يحتاج لوعى فردى ومجتمعى متجدد،ليعد كل فرد العدة لشيخوخته، بمخزون إيجابى من الحب للحياة والناس، ليعينه هذا الحب نفسيا وماديا فى شيخوخته، أما المجتمع الذى يحترم شيوخه فقد ضمن الاستقرار والأمان، التى توفرها خبرة الشيوخ، التى لاتنخدع بزخرف القول والأفكار البراقة، وإنقاذ الشيوخ من اللامبالاة بالحياة هو إنقاذ فى الحقيقة للمجتمع الحي، القائم على قوة الشباب وحكمة الشيوخ ، ونحن فى مرحلة إعادة البناء الوطنى فى أمس الحاجة ليتخلى الشيوخ عن أنانيتهم بالعيش لأنفسهم، وفى أياديهم فسائل عديدة تحتاج للزرع، فلا شيء يعادل الخبرة، ولهذا حديث لاحق. لمزيد من مقالات وفاء محمود