لم تكن هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة إلا تحولا حاسما في التاريخ، ونقل الحياة إلي نبع الخير المتجدد الموصول، وصنع مستقبل باهر للأمة الإسلامية، التي استطاعت تقديم حضارة إنسانية رائعة، علي أسس بارزة من الإيمان والتقوي، والإخاء والتكامل، والإحسان والسماحة والعدل. لقد كان الإسلام في مكة دينا بلا دولة، وحقا بلا قوة، وكان البقاء في بقعة آثر مشركوها الكفر والضلال والجور والأذي، والتحريض علي الإمعان في الاستهزاء بالمؤمنين وكيانهم ووجودهم، والإسراف في الاضطهاد والتعذيب والتآمر، غير محقق ما يرجوه الهدي، أما الخير فهو في التماس عبادة الله في أرض طيبة، مع الصالحين من عباده، وإيجاد بيئة صالحة تتقبل دعوة الهدي، وتستجيب لها، وتذود عنها، وتسعي إلي إقامة دولة إسلامية، تعتصم بالدعوة، وتجاهد في سبيلها، «حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله»، وتتغير مسيرة الحياة ومناهجها. إن بقاء دعوة الهدي والحق في أرض يابسة، يحتفل الكفار فيها بالأصنام والأوثان، ويبغضون فيها النور والخير، ويدبرون الشر الكثير، يمنع انطلاقها، ويعرقل مسيرتها، ولا يتيح للمسلمين أن يكون لهم كيان سياسي، أو قوة كفيلة بنصرة شريعة الله ومنهاجه. والحق أن هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم كانت تضحية عظيمة، عبر عنها بقوله مخاطبا مكة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت»، إن قريشا قد تجاوزت في بغضها وعنادها ومقاومتها للحق كل حد، وأمسي الخلاص من الرسول مهيمنا علي الكفار، فهم يمكرون ليوثقوه ويحبسوه حتي يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا. وبعناية الله ورعايته وصل المصطفي صلي الله عليه وسلم إلي المدينة، موقنا أن الله هو الذي نصره علي عدوه، وفي المدينة هيأت مشيئة الله للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين، ووجد الإسلام أنصارا للدعوة متفتحين، وجنودا للحق مخلصين، فكونوا قوته الرادعة، وجيشه الباسل، الذي يستطيع قهر الباطل، وإثبات أن العاقبة للمتقين، وانتشرت في المدينة مواكب الخير، وطلائع النور التي استجابت لتربية إيمانية عميقة، أكدت أن الاستعداد لدي الأنصار قد بلغ كماله، بعد أن نجح المخلصون في بث التكافل الاجتماعي، والمؤاخاة الصادقة، والإيمان الوثيق، والفضائل الجليلة، التي بينت أن في المدينة مجتمعا إسلاميا متعاطفا متراحما، يحرص علي البذل والعطاء، ويتمسك بمعاني الإيمان والتقوي والعمل الصالح، ويحمي عزة وطهر روابط العقيدة، وأخوة الدين. إن قيام دولة الإسلام يصنع حضارة راقية، ويبني دعائم الأمة، وينظم العلاقات بين سكان المدينة، ويصون الحريات وحقوق الإنسان، ويقيم العدل والمساواة في روعة وعظمة، وكان بناء المسجد الأعظم بالمدينة عملا مجيدا، ونهجا رشيدا، تظهر فيه شعائر الإسلام، وتقام فيه الصلوات التي تربط الناس برب العالمين، وتنقي القلوب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا، كما يتم الالتزام بنظام الإسلام وتربيته، وتوقير عقيدته وآدابه، وتعظيم حكمته وسماحته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.