لحظات لا يمكن نسيانها ولقطات لا يمكن محوها من الذاكرة والوجدان.هذه هي بهجة السينما ومتعة مشاهدتك فيلما عظيما ومعايشتك لأحداثه وأبطاله وأيضا معاشرتك لأحلامك وذكرياتك. فمع هذا الفيلم الذي تعيش معه تندفع الى عوالم جديدة ومن خلاله تكتشف أناسا لم تكن تعرفهم من قبل ومن خلال توالى أحداث الفيلم تتعمق أكثر فأكثر في أعماق ذاتك وخبايا حياتك. وكل هذا معا هو سحر السينما وسر ابهارها. المخرج الساحر هنري بركات وهو يقول: «أنا مولع بالسينما» كشف عن سر اهتمامه واختياره العمل بالسينما ذاكرا:» السينما تخلق عالما آخرا غير العالم الذي أنا فيه.. عالما مليئا بالأشخاص والأحداث والخيال. عالما من نسج الخيال لكن في امكاني أن أحوله الى واقع مرئي دون أن يكون له واقع فعلي. ومن خلال هذا الواقع الجديد يمكنك اسعاد الناس وتوصيل الهدف النبيل الى قلوبهم» وسواء كان في امكانك «اسعاد الناس» أو أن تستمتع أنت بما تشاهده وتراه وتسمعه وتشعر وتنبهر به.. فدائما يجب أن تصرخ وتقول «سكووت هنتفرج» .. نعم، هنتفرج على أنفسنا وحياتنا ونتفرج على دنيانا والبشر اللي حوالينا و»هم بشر وأماكن كان نفسنا نكون معاهم» .. أو «هم بشر وأماكن نحمد ربنا ان احنا مش هناك ومش معاهم». انها متعة اسعاد الناس ولذة الفرجة وفرحة البهجة .. حتى بعد أن تكتب في نهاية الفيلم كلمة «النهاية» .................... منذ فترة ليست ببعيدة بدأ عشاق السينما والأفلام الاحتفال بعيد ميلاد ال75 للفيلم الأمريكي العظيم «ذهب مع الريح» انتاج 1939. ففي نهاية شهر سبتمبر وبداية شهر أكتوبر بدأت أكثر من 650 دار عرض في أمريكا اعادة عرض هذا الفيلم. كما قامت مؤسسة «لايف» الشهيرة مؤخرا بإصدار كتاب مصور يحمل لقطات من مراحل انتاج وتصوير الفيلم. كما تستعد جهات فنية وثقافية وأدبية عديدة للاحتفاء والاحتفال بالفيلم والرواية ومؤلفة الرواية «مارجريت ميتشل» وكل من شاركوا في انتاج هذا الفيلم العظيم الذي أبهر ومازال يبهر عشاق السينما أينما كانوا. ومن منا عبر أجيال عديدة لا يذكر ولا يتذكر هذا الفيلم الشيق والممتع والطويل نحو أربع ساعات؟!. وكيف أن الفيلم كان يتم عادة عرضه على جزءين بينهما «انتراكت» فترة استراحة. ومن منا يمكن أن ينسى المشاهد الحميمة والرائعة التي جمعت بين «كلارك جيبل» و»فيفيان لي».. أو ينسى الابهار السينمائي وأنت تتابع علاقات الحب والغرام ومعها مشاهد الطبيعة والأهم مشاهد الأحداث الانسانية والتاريخية من مصادمات ومواجهات وحرائق حدثت في الجنوب الأمريكي خلال الحرب الأهلية الامريكية بدءا من عام 1861. أول عرض لهذا الفيلم كان يوم 15 ديسمبر1939 بمدينة أطلنطا بولاية جورجيا موقع أحداث الرواية. وفي نهاية شهر يناير 1940 أو بعد نحو شهر وفي حفل توزيع جوائز أوسكار حصل الفيلم على عشر جوائز منها جائزة أفضل ممثلة مساعدة لهاتي ماكدانيل لدورها كخادمة سوداء «مامي» في الفيلم. وبذلك صارت ماكدانيل أول ممثلة أمريكية سوداء تحصل على جائزة أوسكار. بالمناسبة نحن نتحدث عن 1940 وعن فيلم يتحدث عن العبيد السود وعن الجنوب العنصري وعن نظرة البيض للسود .. وكل هذه العوامل معا كانت قد دفعت ببعض أفراد ومجموعات للسود المطالبة بمقاطعة الفيلم والاعتراض على عرضه. واذا كان انتاج الفيلم قد تكلف في ذلك الوقت ما بين اثنين وثلاثة ملايين دولار فان ايرادات الفيلم عبر العقود السبعة الماضية قد تصل الى نحو مليار دولار أخذا في الاعتبار قيمة الدولار عبر السنين. منتج الفيلم ديفيد سيلزنيك يعد المحرك الرئيسي والأساسي لانتاج الفيلم منذ أن قام بشراء حق انتاج الرواية ب50 ألف دولار. وبعده تابع تفاصيل كتابة السيناريو واخراج الفيلم. ولهذا لجأ لأكثر من كاتب سيناريو وتخلى عنهم .. كما أن اخراج الفيلم بدأه مع جورج كيوكر لينتهي مع فيكتور فليمنج. والأمر المثير للانتباه أن تفاصيل المراحل المختلفة لانتاج الفيلم قد تم تسجيلها وتوثيقها والحديث عنها باسهاب فيما بعد. وبالتالي المكتبة السينمائية غنية بمواد كثيرة للغاية عن فيلم «ذهب مع الريح». ونحن نبحث عن تفاصيل حياة صاحبة الرواية مارجريت ميتشل نكتشف أن هذه الرواية «ذهب مع الريح» الصادرة عام 1937 هى الرواية الوحيدة التي كتبتها ميتشل التي ولدت يوم 8 نوفمبر عام 1900 وقالت: «في لحظة ضعف كتبت كتابا» وجاءت هذه الرواية لتصبح الرواية الأكثر شهرة في تاريخ الكتب وبلغ عدد الكتب المباعة منها أكثر من 30 مليونا. وفي عام 1949 بينما كانت تعبر الطريق مع زوجها في أطلنطا صدمتها سيارة مسرعة وقتلتها. وقد تم بيع 50 ألف نسخة من الرواية في يوم واحد. ومليون نسخة في ستة أشهر ومليونى نسخة مع نهاية عام صدورها. ومبيعات الرواية كانت خرافية خاصة أن البلاد كانت تمر في فترة الركود الاقتصادي الكبير. والكتاب كان ثمنه ثلاثة دولارات. ويعد هذا ثمنا كبيرا في ذلك الوقت. وعدد صفحات الرواية تجاوز الألف صفحة. وقد تم تغيير عنوان الرواية الأصلي «ان غدا ليوم آخر» لأنه كان هناك في ذلك الوقت 13 كتابا في مرحلة الطبع تحمل في عناوينها كلمة «غدا». كما تم تغيير اسم الشخصية الرئيسية أو بطلة الرواية من «بانسي» الى «سكارليت». ويجب الاشارة أن كل من قرأ الرواية ولم يكن عددهم قليلا عندما عرفوا بانتاج الفيلم أرسلوا خطابات بريد الى المؤلفة تحمل اقتراحاتهم بأسماء ممثلين وممثلات لكل شخصيات الرواية. وقد تم اختيار «فيفيان لي» من ضمن 1400 ممثلة طرحت أسماؤهن للقيام بدور بطلة الرواية بجمالها الأخاذ وشخصيتها الحائرة والمحيرة والباحثة دوما عن الحب والحبيب. فيفيان لي مثلت الفيلم وعمرها 26 سنة. وهي مولودة في الهند من أم ايرلندية وأب فرنسي. أما كلارك جيبل فكان في ال38 من عمره عندما شارك في بطولة الفيلم. وبما أننا وحسب اللغة السينمائية نقوم بعملية «فلاشباك» استرجاع الماضي أو استحضاره. فخلال السنوات التي شهدت صدور الرواية وانتاج الفيلم وهي نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي كان العالم يشهد تفشي الفاشية وتسلط النازية وبالطبع بداية الحرب العالمية الثانية. كما كان يشهد في الوقت نفسه أعمالا فنية وسينمائية كبرى وعظيمة لسان حالها يقول بصوت عال ومسموع .. الفن في مواجهة الفناء والسينما في مواجهة الأسلحة الفتاكة والدمار.عام 1939 يعد العام الذهبي لهوليوود لما شهده هذا العام من أعمال مميزة تركت بصمتها في تاريخ السينما. في العام نفسه في مصر تحقق حدث مهم في تاريخ السينما المصرية وهو ظهور فيلم «العزيمة» بتاريخ 6 نوفمبر 1939. شيخ المخرجين أحمد كامل مرسي (1909 1987) وهو يتذكر ملامح من السينما المصرية كتب عن هذا الفيلم ذاكرا: «هو من تأليف واخراج كمال سليم. بطولة فاطمة رشدي وحسين صدقي. والفيلم يعالج مشكلة البطالة والعمل الحر ، بأسلوب واقعي نابع من صميم الحياة المصرية» ويضيف: «ويعتبره النقاد والمؤرخون انه طرفة كبيرة وناجحة ومتقدمة في تاريخ السينما المصرية. كما اعتبره المؤرخ الفرنسي (جورج سادول) انه أحد الأفلام المائة المختارة، في تاريخ السينما العالمية» ويرى شيخ المخرجين أحمد كامل مرسي أن الفترة الزمنية ما بين 1936 و1940 هي «مرحلة العصر الذهبي للسينما في مصر.ويرجع الفضل في هذا الى استديو مصر، الذي جهز بأحدث المعدات الآلية والكفاءات الفنية ، وسار العمل فيه الى الأمام، نتيجة التعاون الصادق بين الخبراء المصريين والأجانب، من أجل تقديم الأفلام المصرية، ذات القيمة الفنية والموضوعية. وقد حذت حذوه الشركات والاستديوهات الأخرى. وزاد الاقبال على مشاهدة الأفلام المصرية عاما بعد عام، سواء في مصر أو العالم العربي» وما يلفت الانتباه في رصد أحمد كامل مرسي لهذه المرحلة ذكره أن «أنيس عبيد أنشأ معمله بحدائق القبة عام 1940، لترجمة وطبع العناوين على الأفلام بكل اللغات». واشارته .. «وبدأت أيضا خلال هذه المرحلة «حركة تعريب الأفلام الأجنبية، وجعلها باللغة المصرية. ظهر الفيلم الأول (جاري كوبر في نيويورك) عام 1938 1939. وعنوانه الأصلي كان «مستر ديدز يذهب الى المدينة» اخراج فرانك كابرا بطولة جاري كوبر وجين آرثر. وقام بتسجيل الأصوات العربية: محمود المليجي وأمينة نور الدين». «.. كما أن هذه المرحلة شهدت ظهور عدد من المخرجين المصريين الجدد وهم وفقا لتاريخ عرض أول أفلامهم: فؤاد الجزايرلي (المعلم بحبح) 1935 أحمد بدرخان (نشيد الأمل) 1937 نيازي مصطفى (سلامة في خير) 1937 كمال سليم (وراء الستار) 1937 حسين فوزي (بياعة التفاح) 1937 أحمد سالم (أجنحة الصحراء ) 1939 أحمد كامل مرسي (العودة الى الريف) 1939.» .................... ان الفيلم السينمائي بمشاهده الممتعة ولقطاته الخلابة وحواراته المثيرة وموسيقاه التصويرية وخدعه السينمائية وأبطاله الجدعان وبطلاته الجميلات يحتفي بما هو جميل في حياتنا.. كما أن الفيلم السينمائي بهمساته الرومانسية وصرخاته الغاضبة وبالطبع قبلاته الحارة يحتفل بما هو حميم في مشاعرنا وما هو منطلق في خيالنا. ومهما قيل وتردد بأن السينما ترتكب الجرائم وتشوه المجتمع وتسئ الى التاريخ والدين والقيم والأخلاق فان ما يتردد في خاطري دائما: «نعيب أفلامنا والعيب فينا.. ما لأفلامنا عيب سوانا». ونعم، «كلاكيت كمان وكمان» .. «سكوووت..هنتفرج» ونستمتع بالأفلام الجميلة، تلك التي ولدت عندنا ومنا وتلك الأفلام التي أتت الينا من الخارج.. فكلها في «النهاية» أفلامي وأفلامك .. كما أنها متعتي ومتعتك في ضم العالم الى عيوننا وضم خلق الله الى قلوبنا واحتضان التجربة الانسانية الراقية في نفوسنا وتبنيها من أجل يوم أجمل وغد أفضل لنا ولأولادنا وأحفادنا !!