بات واضحا أكثر من ذى قبل أن الإدارة الأمريكية تجد فى مسيرتها صوب تنفيذ أحلامها المؤجلة تجاه ما سبق وأضمرته من مخططات تستهدف النيل من استقرار ووحدة أراضى الدولة الروسية، مثلما سبق وفعلت مع الاتحاد السوفيتى ، وفيما تواصل واشنطن تدخلها فى الشئون الداخلية للغير، وتقف فى الأممالمتحدة ضد اقتراح روسيا حول استصدار قرار يحظر مثل هذا التدخل ، أعاد سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية إلى الأذهان ما سبق وطلبته واشنطن من موسكو فى عام 1933 حول "ضرورة الالتزام بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للآخرين". وإذا كنا أشرنا فى نهاية سبتمبر الماضى إلى بعض ملامح هذه المخططات التى يحاول الرئيس الأمريكى باراك أوباما جاهدا تنفيذها لتقويض استقرار روسيا تحت ستار ما يصفه بسبل معالجة الأزمة الأوكرانية، فإننا نمضى إلى ما هو أبعد، لنشير إلى أن ما عاد ليقوله حول استعداده للنظر فى العقوبات المفروضة ضد روسيا فى حال تراجعها عن قرار "ضم القرم"، لم يثر لدى الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من ابتسامة "سخرية واستهزاء"، تعبيرا عن عميق يقينه من أن ما اتخذه أوباما من عقوبات لا علاقة له فى حقيقة الأمر بالأزمة الأوكرانية، التى صار القاصى والدانى يعلم اليوم أنها مجرد ستار لتنفيذ أحلام الأمس ، وإذا كانت الإدارة الأمريكية تنطلق فى مخططاتها من كونها "الأقوى عالميا"، فإن موسكو لم تكن لتستسلم أمام مثل هذا التحول، وهى التى سبق وطالبتها واشنطن بالالتزام بعدم التدخل فى شئونها الداخلية . وبهذا الصدد أعاد سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية إلى الأذهان ما سبق وطلبته واشنطن فى عام 1933 بشأن ضرورة النص على التزام موسكو بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للولايات المتحدة، لدى اعترافها بالدولة السوفيتية الجديدة بعد ثورة 1917! وقال لافروف فى كلمته أمام الجمعية العامة لدى مناقشة اقتراح إصدار "قرار حول الالتزامات المتبادلة بشأن عدم التدخل فى الشئون الداخلية للغير" إن واشنطن ترفض اليوم ما سبق وطالبت به بالأمس خوفا من احتمالات التغلغل السوفيتى الأيديولوجي، فى نفس الوقت الذى لا تكف فيه عن تدخلاتها فى شئون الآخرين. ويذكر المراقبون ما سبق وعادت به الولاياتالمتحدة إلى الساحة الدولية فى النصف الثانى من القرن العشرين، ومن ذلك "الصندوق القومى لدعم الديمقراطية" الذى أنشأه الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان فى عام 1983، وكرس ثلثى ميزانيته لزعزعة الأوضاع فى الصين ، على أنه عاد واستقر خياره على الفضاء السوفيتى السابق متغاضيا عن كل ما كان يجرى فى الصين، ومنها أحداث ميدان تيانيمين فى مايو 1989، التى شهدت قمع انتفاضتها بين عشية وضحاها باستخدام الدبابات دون أن ينم عن الإدارة الأمريكية ما يعكر صفو العلاقات الأمريكيةالصينية ، ولذا لم يكن غريبا أن تعود القيادة السياسية الروسية لتكشف عن إدراكها لمكنون "عقوبات" واشنطن، التى تستهدف فى جوهرها إعادة بناء البيت الغربي، وفك ارتباطه بروسيا وتصفية كل ما جرى تشييده من مؤسسات وعلاقات مشتركة فى إطار ماكان يسمى بالبيت الأوروبى المشترك. وقالت مصادر الكرملين إن واشنطن لن تتراجع عن عقوباتها قبل تنفيذ مخططاتها الرامية إلى إبعاد أوروبا عن روسيا وربط اقتصادياتها بالاقتصاد الأمريكي، لا سيما فيما يتعلق بمجالات الطاقة ، وتقول الشواهد الآنية إن انخفاض أسعار النفط، على النحو الذى بات يهدد جديا اقتصاد واستقرار الدولة الروسية، وارتباط ذلك بانهيار الروبل، واستمالة بلدان الخليج العربى إلى بعض هذه السياسات ، خطوات جدية على هذا الطريق، لا سيما بعد تراجع نسبة نمو الاقتصاد الروسى إلى ما دون 1٪، وهو الذى كان بلغ إبان السنوات الأولى لحكم الرئيس فلاديمير بوتين ما فوق نسبة 7٪! وبهذا الصدد يتذكر الكثيرون أن مخطط هبوط أسعار النفط فى سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضى كان فى صدارة الأسباب التى كانت وراء تسريع عملية تقويض ثم انهيار الاتحاد السوفيتى السابق. وكانت المواقع الإلكترونية الروسية نقلت عن كليفورد جادى الاقتصادى لدى معهد بروكينجز فى واشنطن ، أن هبوط أسعار النفط لا بد أن يسفر عن "سحق الاقتصاد الروسي" على حد قوله، من منظور اعتماد اقتصاد روسيا على النفط الذى تشكل إيراداته نسبة 74٪ من ميزانية الدولة الروسية. ولعل ذلك لم يكن ليغيب عن أذهان قيادات الكرملين منذ بداية اندلاع الأزمة الأوكرانية، التى كثيرا ما قال بوتين إنها الستار التى تحاول واشنطن من ورائه تنفيذ مخططاتها الرامية إلى بسط هيمنتها على ما بقى من بلدان شرق أوروبا على مقربة مباشرة من الحدود الروسية ، ويذكر الكثيرون أن الرئيس بوتين كان بادر فى مايو الماضى بزيارة الصين، التى أعلن معها عن توقيع ما يزيد على أربعين اتفاقية يبلغ مجمل قيمتها ما يزيد على أربعمائة مليار دولار، لا سيما فى مجال النفط والغاز. وكانت الأيام القليلة الماضية قد شهدت زيارة رئيس مجلس الدولة الصينىلموسكو، أسفرت عن توقيع العديد من الاتفاقيات بما يرفع الصين إلى مرتبة الشريك التجارى الأول لروسيا إلى جانب "تعزيز الثقة” السياسية والدعم المتبادل مع روسيا، وفى تطوير التعاون العملى معها فى مجالات الطيران والفضاء والطاقة وخطوط سكك الحديد السريعة ومجالات المال والابتكارات، ومشاريع تطوير البنية التحتية"، حسب قول دميترى ميدفيديف رئيس الحكومة الروسية، فى معرض تأكيده إدراك بلاده المخاطر التى تتهددها من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية. وذلك تحديدا ما كان خلص إليه الخبير الاقتصادى الأمريكى من معهد بروكينجز، الذى قال" إن انهيار أسعار النفط فى الثمانينيات أضر بالاتحاد السوفيتي، وساعد على الإسهام فى انهياره فى نهاية المطاف فى عام 1991" ، وأشار الاقتصادى الأمريكى جادى إلى "أن بوتين أمضى وقتا طويلا وهو يدرس هذا الفصل السابق ، وأنه من المرجح على استعداد لمواجهة انهيار آخر فى الأسعار ، وعما إذا كان بمقدوره أن يتعامل مع هذا الوضع بنجاح، فهذه مسألة أخري". وكان بوتين قد كشف فى آخر حديث أدلى به إلي صحيفة "بوليتيكا" الصربية، عشية زيارته إلى بلجراد قبيل مشاركته فى قمة ميلانو، التى شارك فيها 53 من رؤساء بلدان "آسيا- أوروبا" عن : " أن روسيا كثيرا ما سعت نحو علاقات منفتحة وشراكة مع الولاياتالمتحدة، ولكنها كانت تصطدم على الدوام بمحاولات التدخل فى شئونها الداخلية" ، ولم يخف بوتين أن ما جرى خلال الأشهر الأخيرة يدعو إلى المزيد من التشاؤم ، وقال:" إن الرئيس الأمريكى أوباما صنف فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ما سماه "العدوان الروسى فى أوروبا" ضمن أهم 3 مخاطر تتهدد البشرية، إلى جانب وباء إيبولا وتنظيم الدولة الإسلامية" ، واستطرد بوتين : “ لايمكن توصيف الموقف الأمريكى إلا بالعدواني". وأوجز الرئيس الروسى مواقف بلاده تجاه كل هذه المخططات العدوانية، بقوله:" إذا كان المراد من العقوبات هو عزل روسيا، فهو هدف غير واقعى وعبثي، لأن تحقيقه مستحيل، لكن السعى إليه قد يلحق أضرارا جسيمة بالاقتصاد الأوروبى والعالمي" ، وأضاف :"على شركائنا أن يدركوا بكل وضوح أن محاولات الضغط على روسيا عبر إجراءات أحادية الجانب وغير شرعية لا تساعد فى التوصل إلى التسوية، بل تزيد الأمور تعقيدا"، علما بأن القرارات القاضية بفرض عقوبات جديدة تأتى بوتيرة شبه متزامنة مع عقد اتفاقات من شأنها دفع العملية السلمية إلى الأمام. ورغم كل الجهود التى تواصلها موسكو من أجل تخفيف حدة التوتر ونزع فتيل الأزمة الراهنة فى أوكرانيا، تمضى واشنطن حثيثا فى الاتجاه المعاكس، غير آبهة بمنطق أو عقلانية، وهو ما يثير الكثير من السخرية والتندر، ومنه ما قاله وزير دفاعها تشاك هايجل الذى اتهم موسكو فى معرض تحذيره من مغبة ما تضمره من تهديدات بأنها "صارت على أعتاب الناتو". هكذا صراحة.. موسكو المتشبثة بحدودها ولم تخط خطوة واحدة فى اتجاه الغرب، صارت على أعتاب الناتو، وهو ما كان محور "سجال ساخن" بين مراسل "اسوشيتدبرس" فى البيت الأبيض، وجين ساكى المتحدثة الرسمية باسم الإدارة الأمريكية، التى كثيرا ما اتهموها بسطحية التفكير وسذاجة الطرح!