قبل أن يصدر الأمر بإبعاد السيد جمال الدين الأفغانى من مصر فى 1879، استدعاه الخديو توفيق لمقابلته. فقد كان بين الرجلين قبل تولى توفيق عرش مصر بعض الود والتلاقى فى الآمال والأفكار. لكن السياسة فعلت مفاعليها. فقد أصبح توفيق حاكما يزن الأمور بطريقة بينما بقى الأفغانى داعية يحلم بأن تدار الأمور بطريقة أخري. وبعد أن كان الأول يعجب بأفكار الثانى بات يخشى منها ومن تحميسها للمصريين. ولهذا السبب استدعاه فى محاولة أخيرة لإقناعه بالعدول عن خطه. قال توفيق بحسب ما ورد فى كتاب «خاطرات» للأفغاني: «إننى أحب كل خير للمصريين ويسرنى أن أرى بلادى وأبناءها فى أعلى درجات الرقى والفلاح. ولكن مع الأسف فإن أكثر الشعب خامل جاهل لا يصلح أن يُلقى عليه ما تلقونه من الدروس والأقوال المهيجة، فيُلقون أنفسهم والبلاد فى تهلكة». فأجابه الأفغانى برد أفسد خط الرجعة بين الرجلين. قال له: «ليسمح لى سمو أمير البلاد أن أقول بحرية وإخلاص إن الشعب المصرى كسائر الشعوب لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل. وبالنظر الذى تنظرون به إلى الشعب المصرى وأفراده ينظرون به لسموكم. وإن قبلتم نصح هذا المخلص وأسرعتم فى إشراك الأمة فى حكم البلاد على طريق الشورى فتأمرون بإجراء انتخاب النواب عن الأمة تسن القوانين وتنفذ باسمكم وبإرادتكم يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم». راح توفيق وراح الأفغانى وبقيت معان كثيرة لهذا الحوار. فمنذ أن عرفت مصر المجالس النيابية فى 1866 والجدل لا ينقطع حولها. مائة وخمسون عاما تقريبا من الحياة النيابية جاءت فيها برلمانات وراحت أخرى ولايزال «البرلمان الحلم» مستعصياً على الولادة. «والبرلمان الحلم» ليس خرافة يلهث وراءها مصريون رومانسيون وإنما عنوان لرغبة وطنية فى بناء مؤسسة تشريعية تؤدى دورها، كما تقول كتب القانون والسياسة، فى نقل مصر إلى الديمقراطية الكاملة. وطالما أن المصريين يحلمون بديمقراطية كاملة فلا بد لهم من برلمان كامل ظلت صورته تلوح فى مخيلة كثير منهم مع كل انتخابات نيابية يدعى إليها. والكمال بالطبع لله وحده. لكن بمعايير البشر يصبح البرلمان كاملا إذا ما ابتعدت السلطة التنفيذية عن هندسته وتوليده. إذا ما وجدت فى وجهها قانونا يردعها ويحاسبها إن هى فكرت حتى فى ذلك. البرلمان الكامل كل أعضائه جديرون بشرف تمثيل المصريين. يعرف نوابه كيف يعبرون عن الشعب. ويعرف الناس أن من اختاروهم سيفيدون ولا يفسدون أو يستفيدون. برلمان يختاره ناخبون يملكون وعياً ودراية. صوتهم غال لا يُشترى بسلع تموينية أو يُدلى به تحت تهديد عمدة القرية وذوى الجاه. برلمان يحاسب المسئولين ويراقب النافذين ويسن القوانين حماية للمستضعفين. لكن البرلمان المصرى الحلم لم يأت بعد. ولا يبدو أنه سيأتى عبر بوابة الانتخابات التشريعية القادمة التى باتت قريبة. فالمقدمات تكفى لتوقع النتائج. فضلاً عن أن الوقت جرى بأسرع من أى عمل ما زال يتعين القيام به لتحقيق الحلم البرلمانى التاريخى للمصريين فى برلمان كامل البرلمانية. لهذا فكل ما يرجى من البرلمان الجديد ألا يكون برلماناً من إياهم. وإياهم هذه معروفة لا داعى لشرحها. فالمواطن المصرى ذكى لماح يعرف كيف يميز بين برلمانات من إياها كانت عالة على الوطن والمواطن وبرلمانات يتمنى أن يراها وهى تعمل له وللوطن. وإذا كانت أمور كثيرة قد تغيرت منذ أن جرى ذلك الحوار بين توفيق والأفغانى قبل 135 عاما إلا أن أمورا أخرى يبدو أنها لم تتغير كثيرا. فلاتزال الثقافة السياسية لماكينة الدولة المسئولة عن إعداد وإدارة الانتخابات حريصة إلى حد بعيد على الاستئناس أولا بما تفضله السلطة التنفيذية. توسع الدوائر وتضيقها. تزيدها وتنقصها. ترفع عدد المعينين فى المجلس وتخفضه. تأخذ مرة بالنظام الفردى ثم تجمع مرة أخرى بينه وبين الانتخاب بالقائمة. تغير من نسب المزج بينهما. تخصص كوتا ثم تلغيها. كل هذا بناء على استمزاجها لرغبات السلطة التنفيذية، وكأن رغبات القوى السياسية المصرية لا قيمة لها وكأن العمل بما استقر عليه المتقدمون فى العالم مسألة فيها وجهات نظر. هذه الآلة السياسية المحنطة ما زالت تفكر كما فكر توفيق وآخرون غيره أعقبوه. فإلى اليوم تخرج أصوات تطالب بتأجيل الانتخابات التشريعية. وتتجرأ أصوات أخرى تحاول أن تعود من جديد للبرلمان بعد ثورتين، تقترح قواعد لإدارة الانتخابات ليس من ورائها دافع غير مصالحها الخاصة التى تخفيها بالحديث، تارة عن أن المصريين مازالوا غير جاهزين للديمقراطية الكاملة، وتارة أخرى بأن فيهم أميين وجهلاء، وبالتالى لا غضاضة فى اتخاذ القرار بالنيابة عنهم وهندسة البرلمان المقبل خدمة لهم. لكن هؤلاء يعرضون البرلمان القادم لأن يكون برلماناً من إياهم. برلمان لا يليق بالمصريين. وأقل ما يليق بالمصريين لا يقل عن ثلاثة أشياء. سدود تحول دون عودة عصابات مبارك المالية. وبوابات ترتفع فى وجه عصابات مرسى الدينية. ومساحات تفتح أمام العاقل والعالم وأخرى تمنع عن الجاهل والأمي، ليأتى تشكيل البرلمان القادم على صورة تليق بالوطن. فإذا كان الوطن قد حصل على رئيس يليق به فليس أقل من أن يحصل أيضاً إلى برلمان يليق به. ومشكلة الرئيس السيسى أنه يعمل وسط أصوات عالية من الماضى بينما يعرف أن عليه أن يفكر فى المستقبل. أصوات تريده أن يؤجل الانتخابات، وأن يهندس تشكيل البرلمان القادم من قمته إلى قاعدته. يقولون له لقد اخترت ألا يكون لك ظهير سياسى يدافع عن خياراتك عندما تبدأ عجلة التشريع فى الدوران من جديد، وعليك أن تأتى ببرلمان يحاكيك لا يشاركك. وهؤلاء يضرونه ولا يفيدونه. فالرئيس الذى يليق بمصر يتوقع منه أن يحرص على أن يكون لمصر أيضا برلمان يليق بها. برلمان يشاركه ليقوى شرعيته. صحيح أننا قد لا نصل للبرلمان الحلم المرة المقبلة لكن يرجى على الأقل ألا يكون برلماناً من إياهم. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات