ذاكرة تنبهنا وأحلام تطاردنا.. أو ذاكرة نتمسك بها وأحلام نسعى لتحقيقها. هكذا يختار الانسان فى حياته ذاكرته وأحلامه .. وغالبا ما يحتار معهم أيضا .الا أن بهذه السبيكة الانسانية العظيمة التى تضم معا أعماق الذاكرة وآفاق الأحلام تتشكل الدنيا من حولنا .. ويقوم الانسان المبدع والمفكر والمنطلق والحالم والثائر من خلال هذه الأجواء المثيرة والملهمة معا بنحت الفكرة الجديدة والتوصل الى الاكتشاف الحديث وتغيير ملامح حياتنا وأيضا تغيير فهمنا لتفاصيلها ووجودنا فيها. ........................ ومع توالى اعلان الفائزين بجوائز نوبل هذا العام كان من الطبيعى أن تتدفق الخواطر حول الاحتفاء بالانجاز واختيارات الأسماء ومسارهم وذلك تمهيدا وتطرقا لحديث مطول وجدل متواصل حول أهمية الذاكرة ودورها فى حياتنا (أثناء الحديث عن جائزتى الطب والأدب) والفرق بين الاكتشاف والابتكار أو الاختراع (ونحن نتعرف على الفائزين بجائزة الفيزياء) وبالطبع يجب أن يحتدم النقاش حول تعليم الفتيات وتشغيل الأطفال وحقوقهم المهدرة ونحن نتعرف من جديد وباسهاب أكثر على تفاصيل حياة كل من الفتاة الباكستانية مالالا يوسف زاى (17 سنة) والناشط الهندى كايلاش ساتيارثى (60 سنة) وهما معا تقاسما جائزة نوبل للسلام لهذا العام. وبقراءة بعض ما نشر عن الروائى الفرنسى باتريك موديانو (69 سنة) الفائز بجائزة الأدب نتعرف على «منقب الذاكرة» و»من يقوم باقتفاء أى ذكرى وتتبع أى آثر لها « و» أيضا من يعتز بأنه يسعى جاهدا ليتدارك أى نسيان قد يحدث ويحاول صده قبل فوات الآوان» و «انه يكتب ليرمم الماضى وحكاياته معه». وموديانو كتب فى رواية له اسمها «الأفق» متحدثا عن بطله وربما عن نفسه وأيضا عنا «.. فى كل مرة كان يعود ادراجه الى الماضي، كان يشعر بالندم: لماذا اختار هذا الطريق وليس سواه؟ لماذا تخلى عن هذا الوجه أو هذا الظل لمرأة تمسك بيدها حبل كلبها ويسير هذا الأخير وراءها وهى ترتدى قبعة من الفرو على رأسها؟ تملّكه شعور بالدوران فى رأسه مجرد انه فكر بما كان يمكن أن يحصل ولم يحصل.. هذه المقتطفات من الذكريات تعود الى سنوات من الحياة التى يجد فيها دوماً الانسان انه أمام مفترقات جذرية فى خياراته وعدد كبير من الممرات تفتح أمامه وعليه أن يختار وأن يتخطى حيرته». وعن ما نراه ونتذكره من ممرات ومفارق طرق وأماكن عدة فى حياتنا اليومية وبالتالى « كيف نضبط بوصلتنا الذاكرية فى أمخاخنا» ( ال«جى بى اس» الداخلى كما وصفها البعض) جاءت جائزة نوبل للطب ليحتفى بجهد وعمل ثلاثة من العلماء .. الأمريكى البريطانى جون أوكيف والنرويجيين ماى بريت موسر وزوجها ادفارد آى موسر. ما توصل اليه العلماء الثلاثة عبر سنوات طويلة يعد اضافة لفهمنا لما يحدث فى مخ الانسان من عمليات عصبية يتم خلالها رسم خريطة الأماكن التى نتواجد فيها.وبناء على ما يتم رسمه وتسجيله فى دماغنا نعرف كيف نسير فى تلك الأماكن ونسلكها بما تكون لدينا من خبرة مسبقة فى توصيف الأماكن وتحديد الأبعاد وموقعنا من كل هذه المنظومة المعلوماتية العصبية التى تشكلت فى عقلنا. ومثلما نفهم الذاكرة وقدرات المخ فى التذكر نستطيع كما يتمنى الأطباء والعلماء والبشر أيضا أن نقاوم فى المستقبل النسيان أو تبعات «الزهايمر» وذلك مع مرور السنين ووصول الانسان الى خريف عمره وما بعده. ويجب التنبيه هنا لمن يعشق التساؤل ويسعى للمعرفة أن الأبحاث التى جرت فى السنوات الأخيرة وتجرى الآن تأخذنا الى فضاءات وعوالم جديدة فى العقل البشرى وما فيها من أسرار تخص التفكير والتخيل والابداع والتذكر والحلم.أسرار ستتكشف قريبا وتزيد من معرفتنا لمخ الانسان. وبينما كانت جوائز نوبل والفائزين بها حديث الساعة وحديث العالم ووسائل الاعلام فيه وقفت كريستين لاجارد مدير عام صندوق النقد الدولى فى واشنطن أمام كبار مسئولى الاقتصاد والمالية والاستثمار من كل دول العالم لكى تتحدث عن هذه المؤسسة الاقتصادية وآفاق تحدياتها بعد 70 سنة من نشأتها. اللقاء تم فى اطار لقاءات واجتماعات الخريف 2014 لكل من البنك الدولى وصندوق النقد. وقالت لاجارد فى كلمتها:»أرى أن هذه لحظة مناسبة لكى نستعرض تفاصيل رحلتنا معا على مدار 70 عاما. والأهم من ذلك أنها لحظة مناسبة لكى نستشرف المستقبل. فالخيارات التى ننتقيها اليوم تحدد مصائرنا فى المستقبل» ثم قالت: «لذا اسمحوا لى أن أبدأ بسرد قصة على مسامعكم: فى أحد مشاهد الرواية الأدبية الشهيرة «آليس فى بلاد العجائب» للكاتب «لويس كارول»، تصل الفتاة الصغيرة «آليس» إلى مفترق طرق، حيث تلتقى بالقط الشيشايري. وتسأل آليس القط عن الطريق الذى يجب أن تسلكه: فيقول لها إن «الأمر يعتمد إلى حد كبير على المكان الذى تريدين الوصول إليه».وترد آليس قائلة «إننى لا أهتم حقيقة بوجهتى والى أين أذهب». فيقول القط «إذن لا يهم أى طريق تسلكين».ثم أكملت: «لكن لماذا أبدأ حديثى بهذه القصة؟ لسبب بسيط، وهو أن المسار الذى نختار أن نسلكه عند مفترق طرق حيوى تترتب عليه تبعات بالغة الأهمية. فمن المهم أن نحدد وجهتنا حتى نقرر أى الطرق التى نسلكها». وكان لأمر غريب أن المسئولة الاقتصادية العالمية لجأت ل»آليس فى بلاد العجائب» لتقول فكرتها ورأيها لحشد من الحضور حديثه اليومى المتكرر والممل هو الأرقام ومعدلات النمو ونسب البطالة ومؤشرات اقتصادية أخرى. ولم تكتف لاجارد بما قالت فى البداية اذ فى ختام كلمتها وهى تتحدث عن تحديات المستقبل قالت: «.. لقد بدأت بإحدى قصص الأطفال الشهيرة، واسمحوا لى أن أختتم بأخرى. ففى رواية الكاتبة «جوان رولينج» «هارى بوتر» يتلقى بطل الرواية هذه النصيحة المهمة، «إنها اختياراتنا، يا هاري، أكثر من قدراتنا بكثير، هى التى تبين حقيقتنا».إنها اختياراتنا». وما لفت الانتباه أن لاجارد فى كلمتها وهى تتحدث عن البطالة لدى الشباب لجأت الى الأديب الروسى دوستويفسكى ذاكرة تعبيره الذى يقول «الحرمان من العمل الهادف يفقد الرجال والنساء سبب وجودهم». كما قالت أيضا: «.. ينبغى أن نتمكن من أخذ ما ينفعنا وتلافى ما يضرنا. وينبغى أن نتبع منهجا استباقيا وليس سلبيا. وكما قال الشاعر «طاغور» ذات مرة، «إنك لن تستطيع عبور البحر بمجرد الوقوف أمامه محدقا فى مياهه». كما أن مديرة عام صندوق النقد وهى تتناول تعاون الأفراد والشعوب من كل دول العالم من أجل العمل معا قالت: «وهنا تحضرنى كلمات الكاتبة «مايا أنجيلو»، «من أجل إحياء الحلم مرة أخرى». وكم من المرات قمنا بتذكير أنفسنا والآخرين بأن الأفكار والحكم التى ورثناها من خلال الآداب والفنون ملك لنا جميعا وملاذ لنا فى كل الأوقات. كما أن ابقاء الحلم حيا ضرورة وواجب وهدف ومسعى وطريق لا بد منه. فالحلم يظل حيا طالما وراءه حالم يحافظ عليه ويشاطره مع الآخرين أملا منه فى تحقيق هذا الحلم فى يوم ما وتعهدا منهم بعدم وأده على الاطلاق. وجوائز نوبل كل عام فى بداية شهر أكتوبر وحديثنا عن أسماء مرشحة لنيلها ثم اعلان الأسماء الذين فازوا بها تثبت وتؤكد أن الأحلام «لسه ممكنة» وأن العالم لكى يتطور ويتقدم ويتجمل ويبتهج ويزدهر فى حاجة دائما الى حالمين وأحلامهم .. والى أحلامنا أيضا. واذا كانت مالالا تذكرنا بحياتها وكلماتها حق الفتاة فى أن تتعلم فان كايلاش سايتارثى يعنى بالنسبة لنا حقوق الطفل بشكل عام فى ألا يتم قمعه وألا يتم استغلاله فى العمل وألا يتم الاتجار به. وساتيارثى قال عقب اعلان فوزه بالجائرة:» كلى أمل بأن هذه الجائزة سوف تساعد على اعطاء صورة أشمل وأوضح لقضية الأطفال الذين يعانون من شدة الاهمال وشدة الحرمان». وقد أمضى ثلاثة عقود من عمره فى مواجهة ما يمكن تسميته ب»استعباد الأطفال». ومنظمة «انقاذ الطفولة»التى أسسها ساتيارثى فى بلاده عام 1980 أنقذت أو فلنقل «حررت» نحو 83 ألفا ممن كانوا ضمن عمليات تشغيل الأطفال والاتجار بهم وتحديدا فى صناعة السجاد..وقد ولد الناشط الهندى بعد اعلان استقلال الهند بست سنوات ونصف تأثر كثيرا فى صباه بتعاليم غاندى فى المقاومة السلمية. ومن ضمن ما نادى به ساتيارثى فى نضاله من أجل حقوق الأطفال المطالبة ب»عولمة التعاطف الانساني» فى مواجهة التحديات المعاصرة. ويذكر فى هذا الصدد أن نحو 28 مليون طفل وطفلة تتراوح أعمارهم ما بين 6 و14 سنة يتواجدون فى سوق العمالة بالهند وذلك حسب منظمة اليونيسيف للطفولة. وطالما نتطرق فى حديثنا الى مواجهة تحديات العصر ومشاكل البشرية ودور الفرد فى احداث التغيير يأتى الينا د.زكى نجيب محمود بأفكاره المتنورة ومواقفه الجريئة ليشدد على ضرورة وجود «ارادة التغيير» كما أنه يطالب ب»تجديد الفكر العربي». الفيلسوف المصرى وهو يتحدث عن «ثورة فكرية» فى كتابه «مجتمع جديد أو الكارثة» يشير الى أن «الأفكار المؤثرة الدافعة، هى فى حقيقتها حياة عملية تحولت عند أصحابها من خلال المكابدة والمعاناة الى حقائق نظرية صيغت فى عبارات، أما اذا جاءتنا الأفكار عن غير طريق الممارسة والعمل، أعنى اذا جاءتنا جاهزة من عند أصحابها، فانها تجئ ميتة باردة» ويقول أيضا «ان عبقرية الانسان هى فى مواجهته للحياة بالجديد المبتكر، ولقد أراد الله لهذا الانسان أن ينظر الى أمام، ومن ثم كانت أبصارنا فى جباهنا، ولم تكن فى مؤخرات رءوسنا». ويضيف زكى نجيب محمود فى تحد واضح لواقعنا وتفكيرنا فى كلمات نشرت عام 1978:» تراثنا عظيم مجيد، لكن أقصى حدوده هو أن نقرأه ليوحى الينا بما يوحي، لا نستمد منه القواعد والقوانين، اننا نريدها ثورة فكرية تلوى أعناقنا، لتشد أبصارنا الى المستقبل بعد أن كانت مشدودة الى الماضي، نريد أنوالا جديدة لننسج عليها القماش الجديد». وانتهت كلماته الا أن الأمر الأهم اليوم هو كيف نقرأ هذه الكلمات؟ وهل لها معنى ومغزى ونحن فى عام 2014؟؟!! ........................ ولا شك أن معايشة هذا الاحتفاء العالمى بقيمة الفكرة ومعنى الحلم وهذا الترحيب الدولى بالذاكرة والتفانى فى العمل والمناداة ب»عولمة التعاطف الانساني» تنبهنا وتذكرنا وتنذرنا.انها فرصتنا( وأرجوك لا تضيعها) فى أن نرى حولنا من جديد. نعم، أن نرى بعيون يقظة وقلوب منفتحة راغبة فى الالمام بما يحدث حولنا وأن نفكر فيما فعلناه من قبل وفيما نفعله فى حياتنا الآن بحيث نقوم بتقدير وتثمين ما له معنى فى أفعالنا واختياراتنا، ثم نتعرف وندرك أيضا من كان المجد والمجتهد والمبتكر والمبدع وصاحب القضية ومن الذى رغم كل الصعاب لم يتراجع عن طريقه واختياره ومن لم يلتفت كثيرا للضجيج المثار حوله أو بسببه ومن كان مدركا بالطبع أنه بالعمل وحده وبالفعل فقط يتحقق الانجاز ويتم الاكتشاف ويتجسد الابتكار ويتطور المسار الانساني. ان السير بلا كلل عبر هذه الطرق والتحديات والأحلام جائزة فى حد ذاتها يعيشها الانسان كل يوم طالما أراد وعزم وقبل التحدى وسار فى الطريق الذى اختاره بنفسه!!