تسلم الرئيس عبدالفتاح السيسى الدولة المصرية وهى مخربة ماديا ومعنويا.. وكان عليه أن يدخل فى تحد مع كل تلك الصعوبات، التى تواجهه ولأن عقليته قيادية منهجية استراتيجية.. لم يتوقف كثيرا ولم يفكر كثيرا، بل كانت الخطط والأفكار جاهزة فى عقله وفى وجدانه.. كان يمكن مداواة تلك الجروح العميقة بضمادات سطحية مسكنة للألم لكنها لا تفيد ولا تعالج من الأساس.. لذلك لجأ الى المشروعات القومية الكبرى فى أكثر من اتجاه فى آن واحد.. وكان على رأسها مشروع قناة السويس الجديدة وما سينتج عنه من تنمية ستغير شكل السويس وما حولها، بل شكل مصر كلها وتضعها على خريطة المستقبل. كنت فى أحد البنوك المصرية حين سمعت تلك القصة التى وقعت لإحدى الأمهات اللاتى جئن لشراء شهادات استثمار القناة. قالت الأم لإحدى السيدات اللاتى ينتظرن دورهن «لقد جئت لأشترى شهادة واحدة لابني»، ردت عليها السيدة الأخرى «ولماذا لم تصحبيه معك ليحس بالفرحة؟!»، قالت الأم: إنه مريض.. وقد نصحنا الطبيب بعدم مغادرته الفراش، ثم بدأت تحكى لجارتها القصة الغريبة.. ابنها تلميذ فى الصف الثالث الابتدائي.. عمره تسع سنوات.. ظل يلح عليهم أن يصحبوه الى موقع حفر القناة الجديدة.. لكى يرى ما يحدث بنفسه بعد أن رأى العمل الشاق والجميل مرارا على شاشات التليفزيون.. وأخيرا وافق والده.. وقرر الجميع الأب والأم والأخوة والطفل معهم الذهاب يوم الجمعة.. يوم اجازة الأب.. ولكن فوجئ الجميع بمرضه فى الصباح.. كانت حرارته مرتفعة وجسمه «مفكوكا» وهناك «زغللة» فى عينيه.. وألغيت الرحلة برغم إلحاح الطفل على القيام بها.. لكن الطبيب الذى كشف عليه نصح بالراحة لعدة أيام.. وكتب له الدواء المناسب.. ولزم الطفل السرير يراقب التليفزيون. قال الطفل لأمه وهو لم يبارح السرير بعد: أريد أن أشارك فى حفر القناة. قالت الأم: الآلات هى التى تتولى الحفر يا حبيبي.. انه حفر ميكانيكى وليس يدويا. عاد الطفل يقول: ولكننى أريد أن أشارك فى عملية الحفر.. أريد أن أحس أننى أسهمت فى حفر القناة وأن أحكى ذلك لزملائى فى المدرسة. ولما فشلت الأم فى إقناع صغيرها بالعدول عن تلك الفكرة.. حولته الى اتجاه آخر فى التفكير.. نبهته الى شهادات الاستثمار فى القناة.. وهى بديل عن مشاركته فى الحفر.. انها تعطى نفس المعني.. مشاركته فى القناة نفسها ولم يقتنع الطفل.. وفى اليوم الثالث.. زاد عليه المرض.. وارتفعت درجة حرارته أكثر.. وأسرع الوالدان بإحضار الطبيب.. كشف عليه الطبيب وقال غاضبا: ألم أقل لكم ألا تسمحوا له بمغادرة الفراش؟ قال الطبيب: الطفل مصاب بضربة شمس.. شهق الوالدان فى لحظة واحدة: ضربة شمس!! نعم.. ومعنى ذلك أنه ذهب الى الصحراء .. كيف؟ واستفسر الأب: هل يمكن أن يصاب بضربة شمس وهو فى مكانه؟ قال الطبيب: لا. إذن كيف حدث ذلك؟ كان الطبيب صادقا.. وكان الأبوان صادقين.. فالطفل مصاب بضربة شمس فعلا.. كما أكد طبيب ثان وثالث كشفا عليه.. واحتار الجميع فى تفسير ذلك.. لكن طبيبا رابعا.. شرح الأمر من وجهة نظر سيكولوجية، إذ أن هذا الطفل قد وصل الى مرحلة من «التشوق» و«الرغبة» عالية جدا فى أن يذهب الى موقع الحفر فى القناة، وأن يشارك بنفسه فى تلك العملية الوطنية.. فاستجاب الجسد والنفس والوجدان للرغبة العارمة فى الطفل و«ذهب» الى الموقع.. وشارك فى الحفر وأصيب بضربة الشمس.. وكان صياح الطفل وفرحته بالمشاركة وهو فى سريره دليلا على صدق ذلك التفسير. وشفى بعدها الطفل. إن الإقبال الشديد والمتواصل على شراء شهادات استثمار القناة الجديدة، لهو دليل على وطنية المصريين أولا، وعلى رغبتهم فى الانتماء لهذا الوطن بطريقة عملية.. ولعل هذا الفكر الجديد فى إعادة «اللحمة» الوطنية للشعب هو تفكير صحيح وذكي، إذ أن التجارب العملية أثبتت أن المصريين يكونون فى أتم انضباط لهم حين يواجهون التحديات الكبري.. حينذاك يتحولون من جماعات أو مجموعات أو أفراد الى واحد صحيح.. يصبحون «الكل فى واحد»، وهناك أمثلة عديدة على ذلك لعل أبرزها عملية «العبور» فى حرب أكتوبر.. وذلك سر داخل الشخصية المصرية توارثته عبر الأجيال ودخل فى صميم جيناتها.. والأعداء والغرب يعرفون ذلك جيدا، ولعل الصورة الأبرز أمامهم والتى وضعتهم فى ذهول، ربما حتى اليوم، هو شكل المصريين يوم 30 يونيو حين التحم الجميع فى واحد.. حين أصبح «الكل فى واحد» فعلا. الشعب المصرى شعب من «البنائين» منذ عصر الفراعنة.. بنى الأهرامات والمعابد فى العصر القديم.. ثم بنى السد فى العصر الحديث.. وها هو يبنى قناة جديدة اليوم بجانب مشروعات كبرى كثيرة أخرى تضيف الى العمران عمرانا، إنه شعب تاريخي.. حمل التاريخ على أكتافه.. ومازال يحمله حتى اليوم.. لهذا فهو ابن للحياة.. يحافظ عليها عبر الأجيال وينفخ فيها من روحه.. ويعلمها للآخرين. لمزيد من مقالات بهيج اسماعيل