بينما كان الجميع يتكلمون فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى عن اندحار القوة الأمريكية بسبب انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة. وبينما خرج فوكوياما بنظريته غير المتماسكة عن نهاية التاريخ، وخرج صمويل هنتينجتون بنظرية أحادية الرؤية عن صراع الحضارات ، طرح المفكر الاستراتيجى جوزيف ناى مفهوما جديدا فى العلاقات الدولية هو القوة الناعمة - الذى ينتصر فيه قوة النموذج على نموذج القوة - ليؤكد فيه قوة أمريكا كواحدة من النماذج البارزة حضاريا ، والتى تجتذب الملايين فى العالم بقيمها الثقافية والفنية والسياسية كالديموقراطية وحرية التعبير وسياستها الدبلوماسية. طرح ناى مفهومه فى كتاب "تناقضات القوة الأمريكية" ثم طوره إلى كتاب ذائع الصيت باسم "القوة الناعمة" خلال العدوان الأمريكى على العراق، ربما ليقول إن أمريكا كانت قادرة على كسب المعركة مع العراق بقوتها الناعمة من دون تكلفة تذكر، أو ربما ليحذر من الإفراط فى التوسع العسكرى ، مثلما فعل بول كينيدى فى كتابه الشهير "صعود وانهيار القوى العظمى". ناى يرى أن الحروب ليست قدرا محتوما، سواء كانت قديمة كالحرب العالمية الأولى، أو حديثة كالحروب التى تشتعل فى الشرق الأوسط؛ وأن كسب معركة السلام أهم وأصعب من كسب معارك الحرب. فى بداية هذا العام طرح جوزيف ناى رؤيته حول الحرب العالمية الأولى (بمناسبة مئويتها) وحول احتمال وقوع حرب بين الولاياتالمتحدةوالصين - التى تبرز كقوة صاعدة - ورأى ناى أن مجالات التعاون والحوار بينهما أكبر من مجالات التنافس الحاد الذى قد يؤدى للحرب. المشكلة ليست فى ناى أو نظريته الصحيحة، ولكن فى الإدارة الأمريكية التى يؤمن فيها عسكريون مثل كولين باول بالقوة الناعمة وأهميتها ، بينما يؤمن سياسيون كجورج بوش وبيل كلينتون ورامسفيلد بالقوة الصلبة، وأن أمريكا لا تزال – ربما بسبب لوبى السلاح – تفضل صمويل هنتينجتون على جوزيف ناي. هذا الحوار مع جوزيف ناى مقدمة لإعادة قراءة كتابه الذى مر على إصداره أكثر من عشر سنوات لم تتوقف فيها أمريكا عن استخدام "القوة الصلبة" أو التهديد بها..
«ليتنى كنت أعرف» كيف يمكن أن نتذكر الحرب العالمية الأولى بعد قرن على اشتعالها؟ إنها الذكرى المائة لبداية الحرب العالمية الأولى، التى قتلت حوالى 10 ملايين شخص وأطاحت بجيل كامل من الشباب الأوروبى ، وغيرت النظام العالمى فى أوروبا وما وراءها. وهذه الحرب العظمى لم تدمر حيوات ملايين الأفراد فقط، لكنها دمرت أيضا ثلاث إمبراطوريات أوروبية – هى :ألمانيا، والنمسا-هنغاريا، وروسيا - وتركت إمبراطورية رابعة، هى الإمبراطورية العثمانية ، تترنح، قبل أن تنهار بعد ذلك. وحتى اندلاع الحرب العظمى، كان التوازن العالمى للقوى يتمركز فى أوروبا؛ لكن الوضع بعدها تغير كثيرا فقد فقدت أوروبا قوتها بعدما برزت الولاياتالمتحدة واليابان كقوتين عظميين على المشهد السياسى العالمي. كما دشنت الحرب الثورة البلشفية فى روسيا فى عام 1917وهو العام الذى خرجت فيه روسيا من الحرب، ممهدة الطريق للفاشية، وركزت ووسعت المعارك الأيديولوجية التى أشاعت الدمار فى القرن العشرين. كيف وقعت تلك الكارثة، وهل يمكن لها أن تتكرر الآن بعد مائة عام ؟؟ بعد اندلاع الحرب بفترة قصيرة، عندما طُلِب من المستشار الألمانى ثيوبولد فون بيثمانهولفيج، أن يشرح ما حدث، أجاب: "ليتنى كنت أعرف"! وربما لغرض تبرئة الذات قال إن الحرب كانت محتومة ولا مفر منها، وبالمثل جادل وزير الخارجية البريطانى سير ويليام جراي، بأنه "وصل إلى قناعة انه لا يوجد إنسان كان بإمكانه منع الحرب". والسؤال الذى نواجهه اليوم هو ما إذا كان من الممكن لهذه الحرب أن تتكرر. مارجريت ماكميلان مؤلفة الكتاب الجديد المهم "الحرب التى أنهت السلام"، تجادل بأنه من المُغرى – والداعى للتعقل فى الوقت نفسه – مقارنة علاقات اليوم بين الصينوالولاياتالمتحدةالأمريكية بتلك بين ألمانياوبريطانيا منذ قرن مضى.. وبعد عقد مقارنة مماثلة ، تخلص صحيفة الإيكونوميست إلى أن "وجه الشبه المربك بين 1914 والوقت الراهن هو ذلك الشعور بالرضا عن النفس، وبعض علماء السياسة ، مثل جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو ، قال: "لنقلها بوضوح: الصين لا يمكنها أن تصعد بسلام"! بعض المؤرخين يرى أن الحرب الاولى كانت حتمية بسبب التحالفات التى كانت ا تحكم الصراعات الدولية والبعض الآخر يرى انه كانت حربا يمكن تفاديها كيف تنظر انت للأمر ؟ المقاربات التاريخية، رغم أنها أحيانا ما تكون مفيدة لأهداف وقائية، تصبح خطرا عندما تعكس شعورا بالحتمية. الحرب العالمية الأولى لم تكن حتمية. لقد جُعِلَت أكثر احتمالية بصعود القوة الألمانية والخوف الذى أثارته فى بريطانيا. لكنها جُعِلَت أكثر إمكانية للوقوع بسبب رد الفعل الألمانى المتخوف من صعود قوة روسيا، إلى جانب عوامل أخرى متعددة بما فيها الأخطاء البشرية. لكن الفجوة فى القوة بشكل عام بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين اليوم أكبر من تلك التى كانت بين ألمانياوبريطانيا فى عام 1914 ما هى أهم الدروس المستفادة من الحرب وكيف نتخلص من أسبابها ؟ ؟ استخلاص دروس معاصرة من 1914 يتطلب دحض الأساطير التى نسجت حول الحرب العالمية الأولى. على سبيل المثال، الادعاء بأنها كانت حربا اختيارية وقائية شنتها ألمانيا ، وهذه الفكرة يدحضها الدليل الذى يوضح أن النخب لم تصدق ذلك.. ولم تكن الحرب العالمية الأولى حربا بالمصادفة تماما كما يقول البعض، فقد دخلت النمسا الحرب اختيارا، للتصدى لخطر القومية السلافية المتصاعد كانت هناك حسابات خاطئة عن طول الحرب ومداها عمقا، لكن هذا يختلف عن وصفها بالحرب التى نشبت بمحض الصدفة. يقال كذلك إن الحرب تسبب فيها سباق التسلح الخارج عن السيطرة فى أوروبا.. لكن سباق التسلح البحرى كان قد انتهى بحلول عام 1912، وحسم لصالح بريطانيا.وبينما كان هناك قلق فى أوروبا بالفعل من القوة المتزايدة للجيوش ، فإن فكرة أن الحرب كانت نتاجا مباشرا لسباق التسلح غير حقيقية. كانت نتيجة ماذا إذن؟ ما جعل الحرب العالمية الأولى ممكنة الحدوث هو تغير موازين القوى بما فى ذلك صعود ألمانياوروسيا ، لكنها لم تكن بحال غير ممكن تفاديها، لأنه لو تفادت الدول الحرب فى 1914 لأصبحت احتمالات حدوثها فى السنوات التالية ضعيفة.. ذلك أن بناء خط السكك الحديدية الروسى كان من شأنه أن يجعل استراتيجية الهجوم الألمانية غير مجدية. ولماذا تأخر دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية فى الحرب الأولى ؟ حاول الرئيس وودرو ويلسون تجنب الحرب العالمية الأولى قدر المستطاع وطرح فكرة العزلة الأمريكية ولكن بعد ان استأنفت ألمانيا حرب الغواصات الموسعة ، وقامت بإغراق سفن أمريكية، دخلت أمريكا الحرب فى 1917 إلى جانب الحلفاء وكان لدخولها أثر كبير فى حسم الحرب . هل يمكن أن يتكرر الخطأ الآن فى الصراع الأمريكى الصينى؟ يختلف عالم اليوم عنه فى 1914 بصور عدة. إحداها أن الأسلحة النووية تعطى القادة السياسيين ما يماثل "البللورة السحرية" التى تبين لهم ما سيكون عليه شكل عالمهم فى حال أى تصعيد. ربما لو كان لدى الإمبراطور أو القيصر بللورة سحرية تكشف لهم أن إمبراطورياتهم ستدمر وعروشهم ستفقد فى 1918 لكانوا أكثر تعقلا فى 1914، بالتأكيد كان تأثير البللورة السحرية كبيرا جدا على الولاياتالمتحدة والقادة السوفييت خلال أزمة الصواريخ الكوبية، ويمكن أن يكون لها نفس التأثير على قادة الولاياتالمتحدةوالصين اليوم. اختلاف آخر هو أن أيديولوجية الحرب أضعف كثيرا الآن. فى 1914، كانت الحرب "تبدو" بالفعل حتمية لافكاك منها، وهى وجهة نظر دعمها الجدل الداروينى الاجتماعى أن الحرب يجب أن تكون محل ترحيب، لأنها ستنقى الجو مثل عاصفة صيفية طيبة، كما كتب ونستون تشرشل فى كتابه "الأزمة العالمية": "كانت هناك أجواء غريبة. كانت الأمم راضية عن الازدهار المادي، فتحولت بحدة نحو التناحر الداخلى والخارجى. والمشاعر القومية التى تنامت على حساب تناقص الروحانية الدينية، اشتعلت تحت السطح فى كل البلاد تقريبا بعنف . كان الناس جميعا فى كل مكان يتطلعون إلى التحدى وفى حالة تحفز.” البعض يلمح الى أن فكرة "القومية" التى أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى يمكن أن تقود الى حرب جديدة بين العملاقين الامريكى والصينى وإن بشكل غير تقليدى ؟. بالتأكيد مشاعر القومية تتنامى فى الصين اليوم.. والولاياتالمتحدة شنت حربين بعد 11 سبتمبر 2001. لكن أيا من البلدين، فى رأيي، ليست مهتمة بحرب محدودة. فالصين تطمح إلى لعب دور أكبر فى منطقتها، والولاياتالمتحدة لها حلفاء إقليميون تلتزم بالدفاع عنهم. بالطبع خطأ الحسابات وارد دائما ، لكن يمكن تقليل الخطر للحد الأدنى بالاختيارات السياسية الصحيحة. وفى الحقيقة فإن لدى الصينوالولاياتالمتحدة حافزا قويا للتعاون فى موضوعات كثيرة مثل الطاقة وتغير المناخ والاستقرار الاقتصادي. هذا بالإضافة إلى أنه بينما كانت ألمانيا 1914 تلاحق بريطانيا بقوة (وتفوقت عليها فيما يتعلق بالقوة الصناعية)، فإن الولاياتالمتحدة تسبق الصين بعقود عسكريا واقتصاديا وفى مصادر القوة الناعمة. وأية سياسة مغامِرَة بصورة مبالغ فيها ستهدد مكاسب الصين داخليا وخارجيا. بمعنى آخر، فإن الولاياتالمتحدة لديها وقت أطول للتعامل مع علاقاتها مع القوى الصاعدة مما كان متاحا لبريطانيا منذ قرن مضى، والخوف الزائد قد يكون مفيدا. أما سؤال ما إذا كانت الولاياتالمتحدةوالصين ستتعاملان جيدا مع علاقاتهما فهذه مسألة أخرى. لكن كيف تفعلان ذلك، سيكون نتيجة للاختيارات البشرية، وليس بحكم أى قانون تاريخي.. وهنا أنبه إلى أنه من بين الدروس المستفادة من 1914، الحذر من انسياق المحللين وراء القياسات التاريخية، خاصة إذا كان لديهم خلفية حتمية .. الحرب لا تكون حتمية أبدا ، رغم أن الاعتقاد بأنها كذلك يمكن أن يكون أحد أسبابها. لماذا بعد مائة عام من الحرب تظل القوة الناعمة أقل تأثيرا فى العلاقات الدولية ؟ القوة الصلبة أكثر إغراء بالنسبة للقادة والزعماء لأنها تبدو أسرع وأكثر حسما من القوة الناعمة، ولكن على المدى البعيد تكون القوة الناعمة أكثر أهمية. وكلما أسرعت الدول فى إدراك هذا وتحولت إلى الحوار كان ذلك أفضل لها وللعالم . مفهوم القوة الناعمة ترتكز القوة الناعمة لبلد من البلدان كما يقول ناى فى كتابه على ثلاثة موارد: الأول ثقافته عندما تكون لها الجاذبية فى الأماكن الأخرى غير بلدها. والثانى قيمه السياسية بشرط تطبيقها بإخلاص.. فالديموقراطية والتعددية قيمتان سياسيتان لا يمكن أن تؤثرا فى الآخرين لو أن البلد الذى يطبقها لاينفذها بإخلاص وشفافية. والمورد الثالث هو السياسة الخارجية، عندما تكون مشروعة وذات سلطة معنوية وأخلاقية. المشكلة أن أمريكا لها موردان يمكن الجدال فيهما وفى تأثيرهما: وهما الثقافة والديمقراطية .. فقيم الثقافة والسينما والفن التى تجتذب كثيرين فى العالم وحتى الثقافة الشعبية الأمريكية صارت ذات صبغة عالمية؛ وكذلك تفعل فكرة الديمقراطية الأمريكية رغم العوار الذى يعتريها، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات التى يتحكم فيها حزبان فقط، ولا يسمح بانتخاب رئيس من خارجهما. لكن المورد الثالث هو نقطة الضعف الأساسية فى القوة الناعمة الأمريكية. فالسياسة الخارجية الأمريكية لاتحركها قيم المشروعية أو العدالة، بل تحققها فقط المصلحة الأمريكية الضيقة ، سواء فى فيتنام أو العراق، أو التأييد الصارخ لإسرائيل فى كل ما ترتكبه، ولذلك تمسح السياسة الخارجية الأمريكية كل أثر للثقافة والنموذج الديمقراطى، وتصبح القوة الناعمة الأمريكية قوة هشة، ويتخلى قوة النموذج عن أثره لصالح نموذج القوة الذى تفرضه المصالح الداخلية للقوى الاقتصادية الحاكمة فى الولاياتالمتحدة، وليس مصلحة الشعب الامريكى كله.