«التطور التكنولوجي وغزو الكتاب الرقمي لا يمكن أن يهدد مستقبل القصص المصورة في العالم. وأنتم المصريون، يا من نقشتم قديما الرسوم على جدران المعابد وكتبتم باللغة الهيروغليفية المرسمة، أدرى الناس بهذه الحقيقة». جاءت هذه الشهادة على لسان الفرنسي جون بيير مرسييه، المستشار العلمي بالمركز القومي للصورة والقصص المصورة بمدينة أنجولم، الذي حل ضيفا في أسبوع القصص المصورة (الكوميكس) الذي نظمه الناشر الشاب محمد البعلي مع معهد جوته الألماني والمعهد الفرنسي للثقافة والتعاون بالقاهرة، والذي عقدت خلاله جلسات نقاش بين ناشرين ورسامي كوميكس، وورشة لفن القصص المصورة، وتكريم لرائدين من رواد الفن التاسع : معلوف وفواز اللذين تخصصا في قصص الأطفال المصورة، كما شهد الأسبوع -الذي اتخذ عنوانا له «بين الكادرات»- معرضا فنيا لنماذج من ألمانيا فضلا عن رسوم استعادية لكل من فواز ومعلوف. وتأتي مقولة الفرنسي الخبير بمركز الصورة منذ 20 عاما، في البلد الذي ينتج 34 مليون كتاب من القصص المصورة، لتلقي بظلالها على تاريخ طويل لهذا الفن في مصر وبخاصة في مجال كتب الأطفال، لا سيما في لحظة صعوده في العقد الأخير وتزايد اهتمام الشباب والكبار به. وحتى وإن لم يكن الجمهور العريض على دراية بوجود كتب مصورة موجهة للكبار وليست فقط للأطفال، وهو ما انعكس في الفيلم القصير الذي عُرض في الافتتاح وأظهر عدم معرفة شرائح من الجمهور لما يطلق عليه الكوميكس، (القصة المرسمة التي تتطور في كادرات متتالية بين دفتي مجلة أو كتاب وتعتمد على المستوى الفني العالي في الرسم والقدرة على التشويق والحكي)، إلا أن هذا الفن انطبع في وجدان الناس عبر قصص الطفولة في مجلات سمير وماجد وبلبل وعلاء الدين وغيرها. وقد كان الهدف من هذا الأسبوع المكثف حول فن الرواية المصورة هو تطوير المنتج الفني والتبادل الثقافي من ناحية، والتعريف بفن الشرائط المصورة عن طريق مجموعة من الفعاليات من ناحية أخرى، كما يؤكد محمد البعلي، صاحب دار صفصافة للثقافة. «حدثت ثورة في القصص المصورة منذ 2010، لكن النمو بدا بطيئا، إذ كثيرا ما تكون القصص أضعف من مستوى الرسوم، ولم تنجح المواهب الواعدة من رسامي الكوميكس في ضم أعمالها بين دفتي كتاب». استعادة تاريخ القصص المصورة من جديد ومثلما فتحت ثورة 25 يناير الطريق من جديد أمام فنون نوعية في الموسيقى وفي فنون الشارع، تفتح فن الكوميكس من جديد ليخاطب الفئات العمرية من 15 إلى 35، كما يحددها محمد رأفت الذي يكون مع توءم هيثم رأفت ثنائيا في عالم الكتب المصورة وعلى شبكة الانترنت يعرفون باسم «توينز كارتون». صحيح أنه لا يعتبر لغة فنية جديدة، لكنه استطاع أن يغيّر مساره منذ 2009 ليتسع لجمهور الشباب مستفيدا بسرعة التواصل مع جمهور القراء عبر الرسوم الجذابة والقصة الشيقة، ومستفيدا أيضا من ميل الشباب لهذا الفن الذي ألفوه صغارا. فكانت أول رواية مصورة موجهة للكبار هي مترو لمجدي الشافعي تحمل بدايات النقد الاجتماعي وتستثير الرأي العام، ولم تلبث مباحث الآداب أن صادرت الرواية في 2009 بتهمة احتوائها على ألفاظ ومشاهد خادشة للحياء. ثم ظهرت بعد ذلك مجلة توك توك للقصص المصورة التي رفعت شعارا لها (التسلية والتوعية) وميزها نشأتها على يد مجموعة مميزة من شباب الرسامين الذين برعوا في القصص المصورة واعتمادها على النشر المستقل في مواجهة سطو النشر الخاص الذي لايلقى بالا للفن التاسع، وثبتت المجلة أقدامها عن طريق انغماسها في مشكلات الشارع المصري الذي ينعكس في اختيار عنوان المجلة نفسه. وبدت سنوات القهر والفساد التي سبقت الثورة كما لو كانت حافزا لتطوير هذا الفن وضلوع العديد من الشباب في تعلمه والابداع فيه، أو مثلما قال أحد أساطين فن الرواية المصورة في بلجيكا (رنيه فوليه) ليبرر براعة وغزارة انتاج بلجيكا في هذا المضمار بأنهم في فترات الغزو التي شهدتها بلادهم، لم يكن أمام المواطن سوى إسدال الستائر والانكباب على الأوراق وإعمال خياله. أما بدايات فن الكوميكس في مصر، فيرجعها الاخواين هيثم ومحمد رأفت في عرض تاريخي قدماه في ليلة افتتاح اسبوع الكوميكس، إلى عام 1870 حينما أطلق رفاعة الطهطاوي مجلة «روضة المدارس» لكنها لم تستطع أن تصل إلى شرائح المجتمع المختلفة. وفي 1893 أسس مصطفى كامل صحيفة المدرسة، وأصبحت القصص المصورة ترجمات عن القصص العالمية حتي تأسست مجلة سندباد البحري وبرع فيها الفنان الأشهر بيكار، ثم مجلة سمير الشهيرة في 1956، ومن بعدها علامات في الشرائط المصورة مثل اصدارات دار الفتى العربي في السبعينات والتي تجلت فيها أعمال محيي الدين اللباد والفنان حجازي، حتى الوصول إلى مجلات ماجد وعلاء الدين وبلبل. في مديح التنوع شهدت السنوات القليلة الماضية انتعاشة نسبية (نظرا للأزمة الاقتصادية العامة) في الرواية المصورة، فظهرت مجلات عديدة اعتمدت على رواج «توك توك» والاقبال عليها، مثل مجلات دوشمة واتوستراد وأخيرا مجنون. ولم يقتصر الأمر على فكرة الكادرات التي تنقل القصة من لوحة إلى أخرى، بل صدرت الكتب التي تغازل فن الكوميكس في مجالات العلوم الانسانية وليس فقط القصة والرواية المرسومة، مثل كتاب ليلى الراعي عن طلعت حرب أو كتاب خالد الخميسي في الفكر النقدي والتحليلي بعنوان«2011 نقطة ومن أول السطر». إذ لا يوجد نموذج تقليدي صارم، يجب الرجوع اليه في فن القصص المصورة، بل قد يخرج عن فكرة الكادرات المتوالية ليحتل المشهد صفحة كاملة، كما يقول البعلي. وهو ما توفره الأجهزة الذكية (التي وصلت إلى 3 ملايين في مصر)، حيث تقوم مؤسسة هنداوي للتعليم، على سبيل المثال، بتنزيل القصص المصورة على الآي باد والهواتف الذكية، مما يحمل تحديا جديدا لتطويرالرسوم لتتناسب مع الوسيط الجديد. كما تسهم الورش المتعددة التي تدعمها المراكز الثقافية في إرساء التنوع في موضوعات الكوميكس، ليشمل كما هو الحال في فرنسا التي تعد نموذجا في هذا الفن من حيث عدد القراء ومن حيث الانتاج الضخم الذي يتنوع ليشمل الرواية الموجهة للكبار والموضوعات المتنوعة لكل الأعمار من الفكاهة والمغامرات والحركة والاثارة والقصص الخيالية والقصص البوليسية وقصص الغرب الأمريكي والتاريخ والروايات المصورة، والفئة الجديدة الناجحة من الكتب الخاصة بالفتيات المراهقات «جيرلي» والتي تشمل كل ما يشغلهم من المشتريات وعالم الموضة وغيرها. وقد قامت العديد من الورش حول فن الكوميكس لتدريب الشباب باشراف مجدي الشافعي، أو باشراف الأخوين محمد وهيثم رأفت التي أسموها «كوكب الرسامين» كساحة حرة لتبادل الخبرات، أو تجربة «مزج للثقافة والفنون» الأحدث التي أسستها 6 ناشطات في المجال الثقافي في 2013 لدعم وتطوير أشكال جديدة من الفنون على مستوى المحافظات بهدف كسر مركزية الحركة الفنية، ونظمت ورشة للرواية المصورة بالتعاون مع المعهد الحوار الدنماركي المصري في ثلاث محافظات مصرية: اسكندرية والدقهلية وسوهاج لاكتشاف فنانين جدد وتطوير قدراتهم في إنتاج الرواية المصورة بمساعدة عدد من الفنانين منهم مجدي الشافعي وهشام رحمة ومحمد اسماعيل امين وتامر عبد الحميد. أما عن تقييم مستقبل الفن التاسع اليوم، فيرى الفنان معلوف صاحب شخصية بلبل، مجلة الأطفال التي أصدرتها أخبار اليوم في 1999، إن الشباب اليوم لديه قدرات هائلة لكنهم لا يستطيعون مواجهة طباعة القصص المصورة ذات التكلفة الباهظة، والنشر الخاص، طبقا لمعلوف، يفضل نشر الترجمات عبر مكاتب التمثيل الثقافي عوضا عن المغامرة والنشر للابداعات المصرية الشابة. أما الخلاص من وجهة نظر معلوف، فهو في تبني مؤسسات الدولة عملية نشر القصص المصورة «لأنها لا يمكن أن تكون بهدف الربح». أما في فرنسا التي يأتي تصنيفها مع بلجيكا ثاني أهم منتج للكوميكس بعد الولاياتالمتحدة، فتدعم وزارة خارجيتها ماديا إبداع القصص المصورة منذ 25 عاما، سواء عن طريق الدعم المادي المباشر لدور النشر أو ترجمة الأعمال إلى اللغات الأخرى أو تنظيم منح للإقامة والابداع لرسامي الكوميكس.