بعد امتثال ضيوف الرحمن لأمر الله تعالى وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتلبية لنداء الخليل ابراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، حيث وقفوا على عرفات الله ولبوا وطافوا بالبيت العتيق ورموا الجمرات ونحروا هديهم تقربا الى الله تعالي، عادوا إلى بلادهم راجين رب العزة سبحانه وتعالى ان تكون الرحلة مقبولة والذنب مغفورا والسعى مشكورا والعود حميدا. والسؤال هنا كيف يعلم الحاج ان حجه قد قبل، وايضا كيف يستمر الحاج على الاخلاق والاستقامة التى اكتسبها وتعلمها الحاج فى اثناء اداء مناسك وشعائر الحج؟..
علماء الدين من جانبهم، أكدوا ان من علامات قبول الحج استمرار الحاج على فعل الخيرات والطاعات والمسارعة اليها، وحذروا فى الوقت نفسه الحجاج من العودة مرة اخرى الى الوقوع فى المعاصى والذنوب، حتى لا يضيع عملهم هباء منثورا. يقول الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء، إن من الخطأ الكبير أن يظن الإنسان أن مواسم الطاعات فرصة للتخفف من الذنوب والسيئات، ثم إذا ذهبت هذه المواسم وقع بعدها فى المخالفات، وتنتهى فترة إقباله على الله تعالى بانتهاء تلك المواسم والأيام المباركة، بل إنه يجب على المسلم أن يجعل مواسم الخير محطة تحول كامل لواقعه وحياته؛ من حياة الغفلة والإعراض عن الله، إلى حياة الاستقامة والإقبال على الله، موضحا أن الحج ميلاد جديد، واول ما ينبغى أن يفتتح به هذا الميلاد هو توبة العبد لربه، وعزمه على إصلاحِ شأنه كله، قال تعالي«..وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». إغواء الشيطان وأشار الى انه يجب علينا ان نتذكر عظيم نعمة الله علينا، حيث إنه مع كثرة ذنوبنا وعظيم خطايانا وزللنا؛ يكرمنا الرحيم الرحمن بالوقوف بين يديه، وأن نستغفره ونستهديه؛ يكرمنا بأن يسر لنا الحج ليغفر لنا ذنوبنا وخطايانا؛ فما أكرمه من إله واحد أحد، وما أعظمه من رب غفور رحيم تنزه عن الصاحبة والولد، قال تعالي«وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ». واكد أن من إغواء الشيطان وخداع النفوس الأمارة بالسوء أن ينتكس كثير من الناس بعد الحج على عقبيه، ويعود إلى سالف ذنوبه ومعاصيه، وربنا سبحانه ينادينا بنداء الإيمان أن نستقيم على شرعه، ونستجيب له ولرسوله، ونتقيه حق تقاته، ونعبده حق عبادته فى حياتنا إلى مماتنا، قال تعالي«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». واوضح ان على من انعم الله عليه بنعمة الحج او اى طاعة وشعيرة من شعائر الله فعليه ان يقابل ذلك بالشكر لربه، والإنابة اليه، قال تعالى «هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ»، وليس الشكر محصورا فى الشكر اللسانى كما يظن بعض الناس، بل هو عام يشمل الشكر القلبي؛ بحيث يظل قلبك متعلقا بخالقك، مستشعرا نعمته عليك، ويشمل أيضا الشكر العملي، بحيث تكون بعيدا عن كل ما يغضبه عليك، قريبا من كل ما يحبه ويرضاه منك، وقد قال تعالى مبينا هذا المعني«اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِى الشَّكُورُ»، ولنا فى رسول الله أسوة حسنة؛ فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان، فيقال له: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيجيب صلوات ربى وسلامه عليه معلما الأمة حقيقة الشكرِ«أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا». علامة القبول وفى سياق متصل، يقول الدكتور عطية مصطفى أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله علامة، فقد سئل الإمام الحسن البصرى رحمه الله تعالي: ما الحج المبرور؟ فقال«أن تعود زاهدا فى الدنيا، راغبا فى الآخرة»، موضحا انه ينبغى أن يكون حجنا باعثا لنا إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، وحاجزا لنا عن الوقوع فى الآفات والمخالفات، مشيرا إلى أن من علامات قبول العمل الاستمرار فى فعل الخيرات والتزام الطاعات. وأضاف:أن المؤمن ينبغى أن يحمل دائماً فى قلبه هم القبول لعمله، ويتذكر فى كل حين، قول الحق فى الكتاب المبين«..إنما يتقبل الله من المتقين»، وهذا ليس فى الحج وحده، بل فى الحج وغيره، فكم فى الناس من يؤدى العمل والعبادة، ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأن عنده ضمانا من الله بالقبول، بينما يصف ربنا تبارك وتعالى حال عباده الصالحين فيقول«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ». واوضح انه إذا كان الحاج منذ أن يلبى وحتى ينقضى حجه وينتهي، فان كل أعمال حجه ومناسكه تعرفه بالله، وتذكره بحقوقه سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، ولا تسلم النفس إلا إليه سبحانه؛ فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر إلى غيره ؟! وأى أثر للحج فيمن عاد بعد حجه مضيعا للصلاة، مانعا للزكاة، آكلا للربا، آخذا للرشوة، قاطعا للأرحام ؟!. واشار الى ان من لبى فى الحج للرحمن عليه أن يلبى له بالطاعة فى كل مكان وزمان؛ فإن التلبية معناها إجابة لك بعد إجابة، وطاعة لك بعد طاعة، ومن امتنع عن محظورات الإحرام فى أثناء حج بيت الله الحرام، فليعلم بان هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والعام؛ فليحذر إتيانها وقربانها؛ يقول الله تعالي «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا». وشدد على ضرورة التزام التقوى والاستقامة بعد الحج؛ فإن الله تعالى ذكر بالتقوى فى سياق آيات الحج عند الكلام على الهدى الذى يتقرب به الحاج لربه؛ مشيرا بذلك إلى أن حصول التقوى من أعظم مقاصد الحج وفوائده؛ حيث قال سبحانه»لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ»، موضحا ان التقوى التى يتربى عليها الحاج فى حجه هى التى ينبغى أن يسير عليها فى حياته متعاملا بمقتضاها مع نواهى الله وأوامرِه، وكما أن الحج لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال، فإنه تربية وتهذيب للسلوك ليصبح ذلك خلق العبد فى كل حال، وليكون كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم فى الحديث«لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ». فلنحذر كل الحذر من العودة إلى الأفعال القبيحة، والخلال المشينة، وعلينا بلزوم الأعمال الطيبة، والخلال الكريمة؛ فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح الحسنة تتبعها السيئة؛ قال تعالي«وَلا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا». واوضح أن الاستقامة من أولى ما يوصى به المسلم بعد التقوي؛ كما أوصى بها النبى صلى الله عليه وسلم سفيانَ بن عبد الله رضى الله عنه حين قال: يا رسول الله، قل لى فى الإسلامِ قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال«قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ».. ولما كان العبد مع الاستقامة معرضاً للخطأ والتقصير، قال الله تعالي«فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ»، وإلى ذلك أشار الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال«اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا»؛ أي: لن تستوعبوا جميع العبادات، ولن تقدروا على كل الطاعات.