من كان يذهب الى منطقة وسط البلد قبل أسبوعين كان يشعر وكأنه فى قلب العتبة ، وكأن منطقة وسط البلد بأسرها تحولت الى »سوق بالة» ، فهذه المنطقة التى كانت تعتبر من أرقى مناطق القاهرة الكبرى ، وكان يقطنها علية القوم ، ويحلم بها الكثيرون ، تحولت الى سوق عشوائية فى الفترة الماضية ، وخاصة بعد ثورة يناير ، وما أعقبها من أحداث فوضى ، وانشغال الامن عن هذه البقعة المهمة والحيوية فى قلب القاهرة .. ولكن بعد نقل هؤلاء الباعة الى منطقة الترجمان ، فقد عادت وسط البلد وتجملت من جديد وأصبح كل من يذهب الى هناك يشعر بسعادة بالغة ترسم على وجهه ابتسامة أمل حيث بدأت الدولة فى استعادة هيبتها وفرض هيمنتها من جديد ، وعاد كل شئ .الى نصابه الصحيح وعلى النقيض من ذلك كان الغضب والضجر يسيطران على المشهد بمنطقة الترجمان عندما فوجئ بعض الباعة الجائلين وخاصة القدامى منهم بعدم تخصيص اماكن مناسبة لهم ، وتساءل البعض : على أى أساس يتم هذا التخطيط ، والبعض الآخر أصابته حالة من الغضب الشديد بسب بعض وسائل الاعلام التى صورت معظمهم فى صورة بلطجية متسائلين : لماذا التعميم؟
من ناحية أخرى ، كان لنقلهم الى الترجمان فائدة كبيرة لبعضهم، والصدمة الكبرى كانت لعصابات البلطجية وفارضى الاتاوات على صغار الباعة مستغلين بذلك كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة فى فرض سيطرتهم على هؤلاء الضعفاء «من ذوى السوابق واطفال الشوارع والمعدمين والقادمين من القرى والنجوع» لتسكينهم فى اماكن محددة فى الشارع مقابل اتاوات شهرية لحمايتهم ولايستطيع اى بائع منهم الخروج على هذه المنظومة والا سيكون عقابه شديدا بالضرب أو حرق بضائعه وحتى القتل ، وعندما تم نقل المجموعة الاولى كانت هناك بعض المشاكل التى واجهتهم وبعض المطالبات أهمها : تبييض الصحيفة الجنائية ليصبح مواطناً صالحاً ويكون عنصراً ايجابياً فى المجتمع بلا خوف كما أنهم يطالبون بقروض سريعة لتجنب الفجوة مابين نقلهم وتسكينهم فى الترجمان ليتمكنوا من الحياة حتى يصبحوا من صغار التجار برأسمالهم الخاص كما وعدهم المهندس ابراهيم محلب رئيس الوزراء. علامات استفهام عم عيد المصرى من اقدم الباعة الجائلين يعمل منذ 52 عاماً بمنطقة وسط البلد تحديدا فى شارع سليمان باشا يبيع المحافظ الجلدية يقول انه غير معترض نهائيا على قرار نقلهم لمنطقه الترجمان فمن يكره الاستقرار والعمل بأمان ، ولكن كل ما يحزنه ما أطلقه الاعلام عليهم بأنهم بلطجية ويتساءل : لماذا التعميم دائما ؟ ويقول : صحيح هناك من أساء للمهنة ولكن فى نفس الوقت الشرفاء الباحثين عن لقمة العيش الحلال أكثر ، أما المشكلة الثانية التى صادفها فهى تخصيص الاماكن ، حيث فوجئ عم عيد بأن الاماكن المميزة حصل عليها صغار البائعين ، وهناك علامات استفهام كثيرة ، فكيف حصل هؤلاء على هذه الميزة ؟ وعلى أى أساس يتم التخصيص إذا كان قدامى المهنة والأحق بالحصول على أماكن تناسب شيبتهم لا يحصلون على حقهم ؟ أين الزبائن؟ احمد عبدالله «يحمل مؤهلاً دراسياً فوق المتوسط « كان يملك مصنعاً للملابس الجاهزة ولكن بعد ثورة يناير تعثرت الاحوال وخسر مشروعه الصغير الذى كان يضمن له العيشة الكريمة هو وأبناؤه ، لذلك اضطر للعمل كبائع جائل حمل بعض البضاعة منذ ذلك الوقت ، وافترش الرصيف عند منطقة مجمع التحرير ، وفى وقت قصير أصبح له زبائنه حتى أنه اذا غاب يوماً اتصل به موظفو المجمع للسؤال عنه ، ورغم ذلك كان من أول الباعة الذين نفذوا النقل ، ولكن واجهته مشكلتان الاولى تغلب عليها ، وهى صغر المساحة المخصصة له ، وقد انضم مع جاره وضما القطعتين معا ليكون شكل الفرشة مناسباً ، أما المشكلة الثانية فليست فى مقدرته ، وهى عدم وجود زبائن الى الآن ، ويقول أحمد للمسئولين : لن نتمكن من الصبر اكثر من ذلك فنحن على باب الله « نكسب قوتنا يوما بيوم» فكيف سنلبى أهم احتياجات أسرنا ؟ ولن نقول جميعها ،رغم اننا فى موسم المدارس والأعياد، ولكن نريد توفير احتياجات المأكل فقط. تحت الشمس عنتر صالح يعمل بوسط البلد منذ 10 سنوات وعندما بدأوا الحصر سجل اسمه ، وانتقل لمنطقة الترجمان عندما صدر قرار النقل ، ولكن عندما ذهب فؤجئ بأن المكان المخصص له تحت لهيب الشمس الحارقة ؟ فكيف لبشر أن يتحمل ذلك ؟ هذه مشكلة أولى واجهته ، وبعدها توالت المشاكل ، فلكى يستخدموا الحمامات يذهبون للمول ويدفعون جنيهاً «رسم دخول» كما ان مياه الشرب يشترونها فمن يتحمل كل هذا؟! اما ام محمد فكانت مشكلتها اكبر فعندما جاءت لمنطقة الترجمان لم تجد لها مكاناً على الرغم من انها تعمل منذ عدة سنوات بوسط البلد بعد ان طلقها زوجها وتركها بثلاثة ابناء بلا أى دخل. وابور الثلج ولكى نقف على المشكلة التقينا نقيب الباعة الجائلين احمد حسن الذى اتفق مع كل ما قاله الباعة وما عرضوه من مشاكل واكد ان المكان الذى لم يختلف عليه الباعة هو منطقه وابور الثلج ، فلماذا لم يتم الاستجابة لهذا المطلب ؟ فاذا كان المول الكبير الذى اقيم فى هذه المنطقه اغلق ابوابه بسبب سوء الموقع ، فكيف لهؤلاء ان يحققوا النجاح المطلوب ؟ فهناك بائع لم يتمكن من العودة لمنزله منذ عدة ايام بسبب افلاسه وعدم وجود مليم فى جيبه يعود به اليهم . ويؤكد النقيب انه للاسف النماذج التى التقت رئيس الوزراء لم يمثلوا الباعة الحقيقيين ، فبائع ما بعد الثورة ليس هو البائع الاصلى الملتزم بكل قواعد النظام بالشارع. قطاع غير منظم تقول الدكتورة يمنى الحماقى استاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس ووكيل اللجنة الاقتصادية بمجلس الشورى سابقا هذا القطاع التجارى قطاع غير منظم على الاطلاق ، فالبضاعة التى يتاجرون بها لا نعلم اذا كانت مستوردة أو محلية فالبعض منهم كانوا يبيعون بضائع مهربة ، وكانت لا تخضع لرقابة فمثلا الملابس الرخيصة التى يبيعونها لا نعلم هل كانت تستخدم أنواع أصباغ غير مضرة بجسم الانسان ؟ هذا بالاضافة الى الإضرار بالمنتجين ، وبالتالى لها بالغ الاثر على الاقتصاد القومى ، فهذا القطاع يحتاج الى اعادة تنظيم واعادة هيكلة واخضاعه لقوانين التجارة ، وكذلك إحكام الرقابة على الصادرات والواردات والتى تراجع دورها فى الفترة الماضية بشكل ملاحظ ، فاقتصر دورها على اعداد تقارير. وناشدت بضرورة اعادة النظر فى هيئة الرقابة على الصادرات والواردات وتطوير ادائها واحكام السيطرة على الواردات واثرها على السوق المحلية والمنتجات المصرية، مشيرة الى أن الولاياتالمتحدةالامريكية على الرغم من انها اكبر دولة رأسمالية الا أنه يحكمها أكبر نظام لضبط الصادرات والواردات. واشادت الحماقى بنقل الباعة الجائلين الى الترجمان ، لأنه الى جانب أنهم كانوا يشوهون الشارع وهذه المنطقة الحيوية من العاصمة فقد كانت معدلات استهلاكهم من الكهرباء كبيرة لأنهم كانوا يسرقون الكهرباء من الشارع مما كان يؤثر سلبا على شركة الكهرباء ، ولابد من الاعلان الرسمى من شركة الكهرباء بمعدل الاستهلاك قبل وبعد نقلهم، مضيفة الى ان تواجدهم بسط البلد بشكل عشوائى كان يسيئ الى صورة مصر امام العالم وبالتالى تتراجع السياحة والاستثمارات. وشددت على أن الدولة هى المسئولة عن هذا الوضع لأنها بعدم قدرتها على احتواء العنصر البشرى هو من أوصل بنا الحال الى ازدياد أعداد الباعة الجائلين بصورة كبيرة ، فعدم توافر فرص عمل جعل أصحاب الضمائر الضعيفة يستغل بعضهم بعضاً ليقف طوال اليوم على فرشته وبيع بضاعة غير مطابقة للمواصفات حتى يعطيه فى آخر اليوم بضعة جنيهات ويحصل صاحب البضاعة على المكسب الكبير. وترى الحماقى ان نقل هؤلاء الباعة الى الترجمان ليس صحيحا من الناحية الاقتصادية لأن الدولة لم تستفد من هذا المكان الحيوى لنقلهم اليه والذى اذا باعته الدولة او استأجرته كانت سيدر عليها دخلاً بملايين الجنيهات وكان من الاولى أن تبحث عن أرض فضاء غير مستغلة بمكان حيوى وتنقلهم اليها، ونادت جميع اجهزة الدولة بمساندتهم لانها مسئولية الجميع من وزارات التضامن والقوى العاملة والتجارة والصناعة فلابد من التكاتف فى هذه المرحلة الحرجة التى يمر بها الوطن ونساعدهم ليتحولوا من باعة جائلين الى صغار تجار ، ولابد من مساندة كبار التجار لهم وهذا دور الغرف التجارية متسائلة : لماذا لم يساندوهم ويكون لهؤلاء البائعين منافذ لبيع منتجاتهم مقابل المساعدة فى التسويق والوقوف بجانبهم بخبرتهم ؟ بحيث يكون هناك نوع من التكامل بين المشروعات الكبيرة والصغيرة ،هذا الى جانب ارسال مستشارين من الصندوق الاجتماعى والوزارات المعنية لمساعدتهم فى كيفية تسويق منتجاتهم لأنهم فى حالة الفشل والافلاس سيلقون باللوم على الدولة. تجار صغار تقول عالية المهدى عميد كلية الاقتصاد جامعة القاهرة الاسبق ان الباعة الجائلين بالفعل صغار تجار فهم لديهم بيزنس وهناك حالة من البيع والشراء والمكسب ومكان ثابت للتعامل التجارى او حتى متجول ، وتجد بعض اولادهم يمتهنون نفس المهنة . وأشادت المهدى بنقلهم الى الترجمان وتعتقد انها خطوة تأخرت كثيراعلى الرغم من أنهم غير راضين عن هذه الخطوة فهذا امر طبيعى فى البداية لانهم عندما اتخذوا وسط البلد مكانا لهم لمزاولة نشاطهم بناء على معرفتهم انه مكان حيوى وفكرة التغيير فى حد ذاتها مزعجة لدى البعض ، مستشهدة بتجار روض الفرج عندما تم نقلهم الى سوق العبور فى الثمانينيات وكانت معارك ضارية احتجاجا على نقلهم ، واصبح سوق العبور الآن من الاسواق المهمة فى مصر حاليا ، مطالبة اياهم بالتحلى بالصبر لبعض الوقت فالترجمان لها مستقبل اقتصادى هائل لهم فى الفترة المقبلة ،والدولة ستساعدهم وتمدهم بوسائل المواصلات كى تنشط عملية البيع والشراء فى مكانهم الجدد. البلطجية يمتنعون اما عن تبييض الحالة الجنائية ، فيوضح اللواء محمد جنيدى مدير الادارة العامة للمعلومات الجنائية بالامن العام إنها القواعد القانونية ومن اهمها الفيش والتشبيه (ويقصد به البصمة والصورة )، وأى مواطن عند اصداره صحيفة الحالة الجنائية تظهر بيضاء اللون ، ولكن عندما تظهر بها شوائب يكون قد صدر عليه حكم نهائى فى قضية من القضايا ، بعد أن مرت بجميع مراحل التقاضى واصبح الحكم نهائياً واجب التنفيذ ، ويضيف بأن هناك بعض القضايا لا يجوز محوها على الاطلاق ، وهى القضايا الجنائية وقضايا النفس، وقد صرح خبير أمنى سابق «رفض ذكر اسمه» أن هناك جرائم لاتسقط بالتقادم وهى الجرائم الجنائية والمخلة بالشرف والاحكام فيها لاتمحى، وبالنسبة لطلب الباعة الجائلين تبييض الحالة الجنائية لابد ان تكون هناك دراسة لكل حالة على حدة لاختلاف الفروق الفردية بين الافراد، فمنهم من هو معتادو الاجرام ولديهم الكثير من القضايا المتكررة وهنا يصعب تبييض الصحيفة لأنه يصبح خطراً على المجتمع ، ولذلك نقوم بعمل دراسات دورية على أصحاب السابقة الاولى أو الثانية ، ففى نظام التسجيل الجنائيى هناك فئة (أ) وفئة(ب) وفئة (ج) تتمثل (أ) فى القتل العمد والاغتصاب والسرقة بالاكراه ، وتتمثل (ب) فى المخدرات ، أما النصب والقتل الخطأ فهى(ج) ،ومن الصعوبة ان ابيض صاحب الصحيفة (ا) ،ولكن فى الامكان تبييض صحيفة (ج) ، وتكون هناك تقارير متابعة كل 3سنوات وكل من يمر عليه 3سنوات من فئة (ج) ويمارس حياته بشكل طبيعى ، وتؤكد تحريات البحث الجنائى انه لا يتغيب عن محل اقامته ويعيش حياة كريمة تقوم لجنة شئون الخطرين فى القسم التابع له برئاسة المأمور ورئيس الوحدة بالموافقة على التبييض ثم تحول الى لجنة شئون الامن بالمديرية برئاسة السيد مدير الامن ثم تحول الى الامن العام ليزال اسمه من السجلات. اما عن اصحاب الفئة (ب) لا أستطيع حذفه مرة واحدة فإنه يمر على مرحلتين كل مرحلة تستغرق 3سنوات لايرتكب خلالها اى فعل اجرامى. اما الفئة (أ) فلاتبييض لها ، وكل هذه المراحل تنفذ تلقائياً دون طلب من الاشخاص حتى تنقى السجلات من المتوفين والتائبين لانه من الخطورة على المجتمع تسهيل هذه الاجراءات ، وخاصة فى الظروف الاستثنائية التى تمر بها مصر ،وأحب أن أؤكد أن وضع الباعة الجديد بعد التحرر من سيطرة البلطجية واصحاب الاتاوات واصحاب السطوة الاجرامية أصبح افضل بكثير ، وقد ارتاح البائع من مطاردة رجال الأمن ورفع الاشغالات وأصبح يمتلك ترخيصاً يورث لابنائه ، وله سجل يستطيع أن يحصل على القروض بضمان الرخصة ، وايضا يجب أن يتوقف نزيف الانتقال (النزح) من القرى الى القاهرة ،ويبحثوا عن مصادر عمل فى المشروعات القومية الجديدة لصعوبة العودة مرة أخرى لشوارع القاهرة. والدولة الان اصبحت تسير فى الاتجاه الصحيح فى حل مشاكلها المزمنة وعلى رأسها الباعة الجائلون ، ولابد أن تدرس كل منطقة على حدة قبل اتخاذ القرار بالتطهير لأن هناك بعض الشوارع العتيقة التى يسكنها البائعون منذ اكثر من 60 عاماً وذلك يحتاج الى وقت مضاعف للتطهير واعادة الوجه الحضارى للعاصمة واعادة الأرصفة للمشاة.