سألتنى مذيعة الفترة اليومية المفتوحة لإذاعة جنوب الصعيد هل سيفتح مشروع قناةالسويس الجديدة أبواب الرزق لأبناء الصعيد؟ السؤال يعكس واقعا صعبا يعيشه المواطن فى صعيد مصر سعيا وراء الرزق والعيش الكريم. البيانات الرسمية تقول إن ثلث سكان مصر يعيشون فى الصعيد، وأن معدلات الفقر بين هؤلاء المواطنين تتراوح بين 36% فى الفيوم و55% فى سوهاج وتتصاعد إلى 58% فى قنا و 60% فى أسيوط. هذه البيانات تعنى ببساطة شديدة أن غالبية سكان الصعيد يعجزون عن توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة لهم ولأسرهم. نقطة البدء لمواجهة الفقر تتمثل فى حصول الإنسان على عمل يكفل له ولأسرته دخلا يكفى للحياة الكريمة. الصعيد يعانى من ضآلة فرص العمل، فى حين أن أكثر من 50% من سكانه هم من الشباب فى الشريحة العمرية تحت 25 سنة، أى الشريحة التى تتطلع حاليا وخلال السنوات القليلة المقبلة الى العمل والإنتاج و تكوين أسرة. ضآلة فرص العمل فى الصعيد هى إذن قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار الاجتماعي، خاصة فى ظل تربص قوى الظلام والتطرف. على مر العقود الماضية استهدف المستثمرون توطين مشروعاتهم فى القاهرة والإسكندرية وبعض مدن الوجه البحرى. الاستثمار الخاص عازف عن التوجه إلى الصعيد، والاستثمار العام تقلص بعد انسحاب الدولة من النشاط الانتاجى، والكف عن إقامة مشروعات صناعية فى صعيد مصر. حينما كانت الدولة تقيم مشروعات مثل مصنع كيما للأسمدة فى أسوان ومجمع الألومونيوم فى نجع حمادى كانت تفتح فرص عمل وتقيم مجمعات سكنية وعمرانية تلتف حولها الخدمات وتتحسن معها حياة البشر. الحكومة كفت عن إقامة المشروعات الجديدة، والقطاع الخاص لا يستجيب لما تقدمه له الدولة من محفزات للذهاب إلى الصعيد. آخر تقرير للبنك الدولى عن سوق العمل فى مصر يؤكد أن الأراضى الرخيصة التى وفرتها الدولة للمستثمرين والتى كان يفترض أن تشكل حافزا على إقامة المشروعات وخلق فرص العمل، قام رجال الأعمال بالمضاربة على أسعارها وتكوين الثروات الطائلة من إعادة بيعها. الافتقار إلى الخدمات الأساسية يشكل أحد الجوانب الرئيسية المفسرة لبؤس حياة المواطنين وهروب الاستثمارات من الصعيد. فالدولة لم تكتف بالانسحاب من النشاط الانتاجى، بل انسحبت أيضا من دورها الأصيل فى توفير البنية الأساسية والخدمات العامة. البيانات الرسمية تؤكد أن نسبة المساكن المتصلة بالشبكة العامة للمياه فى الصعيد تدور فى المتوسط حول 70% فقط من إجمالى المساكن، وأن النسبة المتصلة بالشبكة العامة للصرف الصحى لا تتجاوز فى حدها الأقصى 23% من المساكن كما هى الحال فى الأقصر فى حين تنخفض إلى 5% فى المتوسط فى كل من المنياوأسيوطوقنا، أما فيما يتعلق بالافتقار إلى خدمات الصحة والتعليم وشبكة الطرق ووسائل النقل الآدمية فحدث ولا حرج. الدولة تتعامل مع الفقر فى الصعيد بمنطق المسكنات وتتبنى الحلول التى تقوم على التخفيف من حدة المشكلة وليس المواجهة الجذرية لها. تعتبر أن الحل هو البرنامج الذى أعلنته لجنة سياسات جمال مبارك لتخفيف حدة الفقر فى 1153 قرية، معظمها فى الصعيد، بوصفها القرى الأكثر احتياجا فى مصر. خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسنة المالية الحالية تقول إن الدولة تستهدف التدخل تدريجيا للارتقاء بالخدمات العامة والاجتماعية فى تلك القرى الأكثر احتياجا، من خلال تحسين خدمات مياه الشرب والصرف الصحى وتحسين جودة التعليم الأساسى والارتقاء بالخدمات الصحية ورفع مستوى مؤسسات الرعاية الاجتماعية وتوفير فرص عمل للشباب. المشكلة أن الدولة تعترف وتقر بتردى الخدمات الأساسية فى تلك القرى، ولكنها تتعامل معها بمنطق التدرج وحين ميسرة؛ فالمرحلة الأولى من البرنامج المستهدف والتى تغطى 151 قرية، بدأت منذ أربعة أعوام ولم تنته بعد! فهل المطلوب من فقراء القرى الأكثر احتياجا فى مصر، والتى يقع معظمها فى الصعيد، الانتظار لأكثر من 30 سنة مقبلة كى يتمكنوا من الحصول على الحد الأدنى الآدمى من الخدمات الأساسية اللازمة لحياتهم؟ حتى عندما أعلنت الحكومة أنها تستهدف تغطية تكاليف الرعاية الصحية للفقراء فى محافظات الصعيد، أكد المتخصصون أن تلك الرعاية لن تشمل الغسل الكلوى وقسطرة وجراحة القلب ولا السرطان، بل لن تغطى كل الأمراض أصلا بل تقتصر فقط على ما تدعوه الحكومة عشرين مرضا شائعا. لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية حقيقية بينما تعيش نسبة مهمة من الشعب دون حد الفقر. ولا يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية فى مجتمع لا تتوافر فيه فرص متساوية لجميع المواطنين للحصول على عمل بأجر يكفل العيش الكريم. الفرصة المتكافئة فى الدخول إلى سوق العمل تفترض فرصة متكافئة فى الحصول على التغذية والرعاية الصحية والتعليم والتدريب الذى يجعل الإنسان مؤهلا للعمل وقادرا عليه، كما تفترض توزيعا جغرافيا عادلا للمشروعات المختلفة يتيح لكل أبناء الوطن أبوابا مفتوحة للرزق. الحوافز الضريبية لا تكفى لاجتذاب القطاع الخاص للاستثمار فى الصعيد. نريد من الدولة القيام بدورها فى توفير الخدمات العامة الأساسية من مياه وكهرباء وصرف صحى وطرق آمنة ووسائل انتقالات وتعليم وصحة. لا يمكن أن يبقى الفقر فى الصعيد انتظارا لرحمة الاستثمار الخاص. نريد من الدولة العودة لإقامة المشروعات الإنتاجية فى الصعيد ليكون منطقة جاذبة. نريد حقوق المواطنة الكاملة لأبناء مصر فى الصعيد. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى