تحفل فريضة الحج بالعديد من الدروس والعبر والفوائد العظيمة، منها ما يمس الأخلاق والمعاملات، ومنها أيضا ما يمس العقيدة، فضلا عن الأثر العظيم للفريضة ذاتها بالنسبة للأفراد والأمة على السواء، جراء هذ الحشد الهائل الذى يلتقى سنويا فى مكان واحد وميقات واحد، نحو قبلة واحدة، مرددين جميعا «لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك». الأمر الذى دعا معه علماء الأزهر للمطالبة بأن تكون قيم وسلوكيات الحج التى تحملها شعائره ونسكه، وكذا الروحانيات التى تحققها هذه الشعيرة، نبراسا مضيئا تهتدى به الأمة كى يمكنها التغلب على أمراضها التى ابتليت بها فى العصور المتأخرة، من مادية وأنانية ومجافاة وغيرها. فالحج كما يقول الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر الأسبق عضو مجمع البحوث الإسلامية، مؤتمر سنوى حاشد لا يستطيع بشر أن يجمع الحاضرين إليه، مهما تكن إمكاناته أو أهمية موضوعه..لكنه مؤتمر يدعو إليه الخالق عز وجل، والحجيج هنا مهاجرون إلى الله ، يرجون رضاه والاستجابة لندائه، أملا فى مغفرة الذنوب والخطايا. وحقيق بمن هذا حالهم أن تأتلف قلوبهم، وتتوحد كلمتهم ويكونوا صفا واحدا، على قلب رجل واحد، ضد كل من يريد لدينهم أو وطنهم سوءا. والحج يعلمنا الأخلاق الحسنة والصبر على الدنيا ومصابها ومشاقها، والإقبال على ما بها بحب ورضا وإيمان، فلو لم يتحل الحاج بالصبر لما استكمل الرحلة وأقدم عليها وهو يعلم ما بها من مشاق وعناء. والحج دعوة للتجرد وعدم التشبث بحطام الدنيا الزائل الذى انتقل من أيدينا إلى قلوبنا وتحولت حياتنا إلى مادة وحسب وجفت الروح والمشاعر، فإلزام الحاج بارتداء ملابس الإحرام التى تشبه كفن الموتي، يعمق فينا شعور الزهد فى الدنيا والإقبال على الآخرة، فحينما تتجرد مما اعتدت عليه من اشخاص وثياب وممتلكات وتجد نفسك خاويا من المتاع الزائل، لابد أن ينتابك شعور الآخرة، وساعتها تدنو فى عينك الدنيا وتعظم الآخرة، فإذا عظمت لديك الآخرة سارعت إلى فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات والمعاصى والذنوب وكانت لك غاية واحدة هى أن تلقى الله عز وجل يوم القيامة وهو عنك راض. ومن كان هذا حاله ماذا يريد من الدنيا إلا أن تكون سبيلا آكدا للوصول إلى هذا الهدف الأسمى ، فلا خصومة ولا نزاع مع بشر ولا كبر ولا رياء ولا احتقار لأحد، ولا غيبة ولا نميمة، ولا تمسك بحطام زائل... بل لا معاصي، صغائر كانت أم كبائر. والحج أيضا يعلمنا أن الدنيا لا تتعارض مع الآخرة، ففيه منافع للناس، ذلك المؤتمر السنوى الحاشد، الذى تحضره وفود من كل الدنيا لا تلتقى ثانية سوى فى مثل هذا اليوم من كل عام، يمكن أن يحققوا منافع كثيرة تعينهم على أمور الدنيا رغم أنهم بالأساس يؤدون فريضة تعبدية، غير أن الله تعالى لم يرد لنا فى هذه الأيام أن نتعبده فقط تسبيحا وتحميدا وتمجيدا وتهليلا، وغير ذلك من شعائر ونسك الحج، بل أباح الله لنا بهذا المؤتمر السنوى العظيم، التجارة، وحل مشكلاتنا الكبرى ومناقشة قضايانا كأن يوفد رؤساء وملوك العالم الإسلامى ممثلين لهم يتباحثون أمورهم ومشكلاتهم. الحج يعلمنا أن المسلمين أخوة فى كل مكان ليس فى مصر وحدها بل كلنا أخوة فى الإسلام مهما تباعدت أقطارنا، وأن يرى بعضنا بعضا خير من أن نسمع عن بعضنا، فإذا ما تحققت الأخوة وشعر بعضنا ببعض، كان هم المسلم فى أقصى الشرق هو هم المسلم فى أقصى الغرب، يشاركه أفراحه وأتراحه، يتصدق عليه حال العوز، يدعو له بظاهر الغيب، وكم منا يعود من الحج بصداقات لا تموت إلا برحيل أصحابها..وقد يساعد اليوم على هذه اللحمة وتوطيد العلاقات المتباعدة ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة عبر الشبكة العنكبوتية الإنترنت، وغيرها. الدكتور إمام رمضان إمام أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر: يوضح أن الإحرام له دلالة مهمة وهى العودة إلى الفطرة السوية، ونتخلص من كل ما أدخل عليها، فالحاج ينسلخ مما سبق من عمره وحياته ويعلن انقياده وتسليمه لله عز وجل، قائلا: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..فالحج يعلمنا الانقياد المطلق لله عز وجل والاستجابة لأوامره واجتناب نواهيه، علمنا العلة أم لم نعلم، أدركت عقولنا ذلك أم لم تدرك.. ولعل المدقق لشعائر الحج يدرك ان تلك الشعائر تؤكد لدينا هذا المعنى من خلال الطواف والسعى بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر الأسود ورمى الجمرات. ففى حين تكون تحية أى مسجد بصلاة ركعتين عند دخوله، نجد أن تحية قدوم الكعبة تكون بالطواف حولها وليس الصلاة كما تعودنا، وهنا ليس لنا أن نقول لماذا، كما أننا نقبل أو نشير إلى الحجر الأسود وهو حجر لا ينفع ولا يضر، ونهرول بين الصفا والمروة، ونجرى فى الرمال، ونرمى الجمرات ونرجم حجرا بحجر...هذه كلها مناسك لو أعمل الحاج فيها عقله ما أتمها، لكنه الانقياد المطلق لله عز وجل الذى ترسخه فى قلوبنا فريضة الحج، اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم الذى علمنا ذلك فقال «خذوا عنى مناسككم». ويوضح د.إمام أن فى ذلك فائدة مهمة يجب أن نعيها دائما وهى أن التشريع الإسلامى لا يخضع فى مجمله للناحية العقلية، وإن كان للعقل نصيب فى فهم بعض الأمور والعلل، لكن يبقى أن نعلنها دائما فى التعامل مع الله «سمعنا وأطعنا».