كنا على «الحد الفاصل» بين شارع مزدحم بالفوضى وتلاميذ يقفزون من فوق أسوار المدارس المجاورة وكأنهم يعلنون استمرار التعليم «الهزلي» على حاله،كان الباب الذى دخلنا منه الى هذه المدرسة عند نقطة «الحد الفاصلة» مفتوحا على مصراعيه لكن المشهد مختلف، مدرسون جادون متفاءلون واثقون من أنفسهم، وتلاميذ بمجرد أن تلتقى عينك بعيونهم تشعر وكأنها هى مدرسة الحد الفاصل بين تعليم جاد يبشر بمستقبل واعد وتعليم عبثى ينذر بخطر داهم خطوات قصيرة من الباب ما ان قطعناها حتى استوقفتنا ياسمين سيد التى عرفتنا بنفسها أنها بنفسها شامخة معتزة بمدرستها قائلة: أنا رئيسة البرلمان هنا .. أى خدمة.. استغربنا الامر فى البداية لكنها راحت تستكمل تعريفها مؤكدة أن هنا وفى هذه المدرسة من حق الطالب نقد أى قواعد يرى انها لاتحقق الغرض الموضوعة من اجله من خلال توضيح الأسباب المنطقية واستخدام الأسلوب المتفق عليه للاعتراض حتى لا تتحول عملية الاعتراض الى حالة من الفوضى لان الهدف من الاعتراض هو تصحيح المسار. وعلى الطالب أن يتوجه الى ناظر المبنى للشكوى من اى تقصير يصدر عن هيئة التدريس وهو مايوجب بعدها قيام ناظر المبنى باتخاذ اللازم, كما يجب الالتزام بمواعيد حضور المدرسة صباحا يتساوى فى ذلك الطلبة والمدرسون, وكذلك الالتزام بالمظهر الشخصى وفى حالة التأخير لعدم حضور طابور الصباح فلتقم المدرسة بعمل طابور آخر للمتاخرين، كما أنه يجب التنبيه على أن تحية العلم هى رمز الاعتزاز بهذا الوطن ونحن ابناء هذا الوطن فان لم نعتز بهذا الوطن فمن سيعتز به، بهذه المواد الدستورية المنظمة لعلاقة الأفراد بالمجتمع المدرسى الصغير تدور الحياة التعليمية على خط الحد الفاصل المسمى بمدرسة أم المؤمنين.. وهى بالمناسبة مدرسة حكومية ، فكيف قفزت من مربع الفشل والتأخر والأمراض التعليمية المستعصية.. هى تجربة فريدة تستحق منا ان نسرد عليكم تفاصيل الحياة بها. برلمان «الثمانى والعشرون» لم تكن المادة التعليمية وحدها هى مايجب أن يتلقاه طلبة «ام المؤمنين» أو هكذا فكر القائمين على إدارة تلك المؤسسة التربوية وهو مادفعهم لإجراء انتخابات برلمانية لخلق حالة توعية سياسية ومناخ ديمقراطى تكفل للطلبة الحق فى التعبير عن قضاياهم ومناقشتها داخل برلمان يتيح لهم كافة الحقوق فى إدارة أزماتهم واتخاذ القرار المناسب لحلها وكذلك وضع رؤيتهم الخاصة لتنظيم العلاقة بين الأفراد داخل مجتمعهم الصغير مدرسة «ام المؤمنين» هذا البرلمان كان له الحق فى إصدار كل التشريعات والقوانين المنظمة للعمل والعلاقات داخل المدرسة وبالفعل تم انتخاب 28 عضوة برلمان من طلبة المدرسة فى مشهد مهيب لا يشوبه أى عوار ثم تم تشكيل 5 لجان برلمانية (علمية وفنية وثقافية ولجنة شكاوى ومقترحات وكذلك لجنة إعداد) ثم تم انتخاب رئيس البرلمان والوكيلين وأمين السر وهذا البرلمان قام لاحقا بإعداد الدستور الخاص بالمدرسة وتم الاستفتاء عليه فى البرلمان بعد الانتهاء من كتابته لتخرج النتيجة النهائية موافقة 32 طالبة من إجمالى 40 طالبة حضروا الاستفتاء البرلمانى ورفض 8 طلاب آخرون ليتم بعدها استفتاء عموم الطلبة البالغ عددهم 843 حيث خرجت النتائج 585 صوتا موافقا على الدستور و52 صوتا رافضا وعدد 2 صوت باطل من إجمالى 639 حضروا الاستفتاء و204 غابوا عنه لتخرج النتيجة النهائية بالموافقة على دستور «أم المؤمنين» بنسبة 91.8%، وتذكر ياسمين سيد رئيسة البرلمان ان هذا البرلمان قد اتخذ قرارا مسبقا من شأنه عقاب المدرسين نظرا لتأخرهم عن حضور الحصة عقب شكوى تقدم بها بعض الطلبة للجنة الشكاوى والمقترحات بالبرلمان، فلائحة الدستور يتساوى أمامها الجميع من طلبة ومدرسين وعمال. وتضيف أن المدرسة قد قدمت أيضا نموذجا حقيقيا فى تدرب الطلبة على الحكم الذاتى ومشاركة القيادة تمكن فيها الطلبة من الجلوس على كرسى مدير المدرسة يرافقه شخص المدير الى جواره للنصح والارشاد، وفى حالات كثيرة قام الطلبة المنوط بهم الإدارة والذين غالبا مايكونون من أعضاء اتحاد الطلبة الذين وصلوا بانتخاب فصولهم لهم لرئاسة الفصل، قاموا بتوجيه مدرسين ومعاقبة طلاب لمخالفتهم لوائح الدستور «السبورة الذكية» والمدرسة التى يقوم على إدارتها رجال أخلصوا لحلمهم فى تفردها، لم تسمح لأى من العوائق أو الظروف ان تهدم بنيان حلمها، وأبوا إلا تحقيقه رغما عن الظروف والإمكانات المتاحة مهما تكن، فكيف تسنى لهم أن يفكروا فى استبدال جميع سبورات المدرسة بسبورات ذكية ولمن لايعرف فالسبورة الذكية تم تصنيعها لأول مرة فى التسعينيات ويصل سعرها الى حوالى 4 آلاف جنيه للسبورة الواحدة، وفى مدرسة يصل تعداد فصولها الى 23 فصلا، يصبح من غير المعقول أن توفر لهم وزارة التربية والتعليم 92 ألفا لشراء سبورات ذكية لفصول مدرسة ام المؤمنين دونا عن باقى مدارس الجمهورية ، لكن هذا لم يكن عقبة أمام إرادة الذين هاموا فى حب تلك المدرسة والتفانى فى تقديم أفضل خدمة ممكنة لطلاب العلم الذين ساقهم حظهم السعيد ليكونوا فى رعاية تلك المدرسة، نعم فالمدرسة التى إختارت الديمقراطية والشراكة نهجا فى إدارتها قد فعلتها مرة أخري، وعقدت جلسة برلمانية دعت اليها مجلس الأمناء والطلبة أعضاء البرلمان وأخبرتهم برغبتها فى استبدال تلك السبورات البدائية بسبورات ذكية تمكن الطلبة من مواكبة تكنولوجيا التعليم المتسارعة بعيدا عنا فى التطور والتقدم وهو ماوجد استحسانا من أولياء الامور والطلبة على حد السواء وقرروا طرح المناقشة لاستفتاء شفهى على دعم أولياء الأمور للمدرسة ماديا لتطبيق تلك الفكرة ووافق أولياء الامور بالإجماع على تمكين أبنائهم من مواكبة التقدم التكنولوجى لما وجدوه من صدق فى تلك المدرسة، وأصبح الحلم حقيقة وأمكن لكل فصل أن يمنح سبورة ذكية يتعلم عليها. تقول عنها هبة يوسف الطالبة بالصف الثانى الثانوى لقد مكنتنا السبورة الذكية من نطق الشعر الجاهلى شديد الصعوبة بصورة أفضل وأيسر كثيرا وهو ماوفر فى وقت الحصة كما أصبحت القصة أكثر تشويقا إذ أصبحنا نستمع لحوار أقرب الى عرض درامى مصور كما تمكنا من نطق مصطلحات اللغات الأجنبية بشكل أفضل وقد كنا نتسابق والزملاء على تحضير فيديوهات من مواقع الإنترنت التى تتيحها السبورة لشرح المنهج والتزود بمعلومات أكثر فى كل جزئية من المنهج، بالإضافة الى حل مشكلة نسيان الكتب الدراسية واضطرارنا لحملها معنا وتحمل عناء ذلك يوميا إذ ان كتب المدرسة محملة «Pdf». «هيئة البحث العلمى ..وتوأمة مع الجامعات» وحتى تمكن المدرسة الطلبة من الاختيار الصحيح وتشاركهم فى اختيار الكليات التى تتناسب مع ميولهم وإمكاناتهم، قررت إدارة المدرسة عمل توأمة مع جامعة حلوان لاستجلاب أساتذة من الجامعة لمساعدة الطلاب فى تحديد هويتهم التى من الممكن لهم التميز فيها والإشراف على معرض الذكاءات المتعددة الذى تنظمه المدرسة لطلابها. وتقول أمانى السعيد الطالبة بالصف الثالث الثانوى والمسئولة عن المعرض إننا كطلبة وتحت إشراف إدارة المدرسة توجهنا الى هيئة البحث العلمى وطلبنا منهم مدنا باختراعات تم تسجيلها لمحاولة محاكاتها واستعنا باساتذة جامعات من كليات الهندسة بجامعة حلوان والقاهرة وعين شمس لنتعلم خطوات البحث العلمى والإشراف على محاولاتنا لتطبيق ومحاكاة الاختراعات المسجلة واستطعنا بالفعل، مروة محمد استطاعت محاكاة تشغيل سيارة بالطاقة الشمسية وتحويل الطاقة الشمسية لالكترونات، وتسنيم حسن استطاعت تطبيق مشروع الإشارات الضوئية دائرة بسيطة لإشارة المرور ، وسارة ياسر انجزت دائرة لتحديد منسوب المياه، وآخرون استطاعوا عمل إنذار صوتى للتبول اللاإرادى وتمكنوا من عمل محاكاة لتحويل صوت جرس المنزل الى إضاءة لخدمة الصم وفى تقدم ملحوظ تمكنوا أيضا من عمل محاكاة لغواصة الكترونية يمكنها التنقيب عن البترول وروبوت لإطفاء الحرائق.. كل ذلك فى معامل المدرسة وبالجهود الذاتية للمدرسة وأحيانا الطلبة الذين بادلوا القائمين على المدرسة عشقها والتفانى فى رفعة اسمها عاليا. 5 دقائق قيم .. وأصابع الشعار وليس بالعلوم وحدها تحيى الأمم وتتقدم المجتمعات.. كان هذا جليا للقائمين على المدرسة.. وهو ماجعلهم يلتفتون الى ضرورة تقديم جرعة أخلاقية أيضا بالتوازن مع ذلك الكم التعليمى الهائل.. وعليه تقرر تخصيص 5 دقائق اسبوعيا للحديث عن قيمة أخلاقية عظيمة.. ادركنا حين ذهبنا هناك أن قيمة هذا الأسبوع كانت هى الضمير.. وهى القيم التى يجب ان يلتفت اليها القائمون على امر المجتمع باكمله، إذ أن غيابها سيؤثر سلبيا على كل عمل حتى ولو بذل لإنجاحه جهد كبير. واختارت المدرسة الأصابع مختلفة الألوان والاطوال شعارا لها لتؤكد حقيقة اختلاف البشر وضرورة عملهم معا على إختلافهم وتقبلهم الآخر وضرورة قبول فكرة الحوار المجتمعى والتوصل لحلول دون تعصب، تحلق فوقه حمامة ممسكة بقلم ليرمزوا بالحمامة للترفع عن الصغائر وللقلم بالعلم الذى يجب ان يحلق عاليا. فيما تؤكد افنان احمد رئيسة اللجنة الفنية بالبرلمان أن لوحاتنا التى صنعتها أيدى طلبة ام المؤمنين بأيديهم موقعة بأسمائهم تزين جدران المدرسة ، دخلنا بها معارض وفوزنا فى كثير منها. ليلة «بكاء» مائة وثمانى وعشرين طالبة والمدرسة التى بهذه الملامح، من المنطقى أن يتسارع اليها الطلبة ويهفو إليها أولياء الامور، لكن 23 فصلا هم عدد فصول المدرسة لاتتسع لمزيد من الطلبة ، وهو ماوضع ادارة المدرسة فى مأزق إزاء تشبث الطلبة بهم وقلة الاماكن المتاحة ، وعليه تم إقصاء 128 طالبة رغما عن رغبتهن ولكى يقتنع الطلبة بالرحيل قامت الإدارة التعليمية يتشييد مبنى ملحق وأبلغتهم المدرسة بتبعية ذلك المبنى لهم حتى يستجيبوا للقرار، والحقيقة أنه لايتبع تلك المدرسة اى مبان تعليمية خارج أسوار «أم المؤمنين الثانوية»، لكن ثمة بصيص أمل يطل برأسه لو تستجيب هيئة الأبنية التعليمية وتلحق بها مبنى تعليمى محل غرفتى «الكانتين» ودورات المياه وجعلهم ضمن المبنى الجديد حتى يتسنى للمدرسة إلحاق تلك الاعداد المتزايدة والراغبة فى الانضمام الى كنف تلك المدرسة. وفى النهاية فإن كاتب هذه السطور لايسعه إلا الإحتفاء بتلك المدرسة ورغبته فى ان يربت على كتف أولياء الامور الذين يدفعون مبالغ طائلة لمدارس خاصة بعضها لايقدم لابنائهم جديدا ويتمنى لو تصبح تلك التجربة نموذجا لولى الأمر والدولة على حد السواء، فلو فعلها أولياء الامور وقرروا إنفاق ماينفقون فى مدارس خاصة من مصاريف مدرسية على تطوير المدارس الحكومية وتنميتها كيفما يريدون لابناءهم لتغير الامر كثيرا وعولجت مشكلة سوء الخدمة المتلقاه فى المدارس الحكومية وكذلك فإنه يهيب بالدولة لو توجد فى كل مدرسة محبون ومخلصون يقومون على أمر تلك المدارس قادرون على تحقيق حلمهم مهما تكن الصعاب فقط لأنهم أخلصوا لحلمهم حتى تحقيقه ولم تمنعهم الإمكانات ولم يجدوا فى الظروف والصعاب شماعة يعلقوا عليها فشلهم وركودهم ولكن جعلوها عقبة من الممكن لإرادتهم القوية إذ ماتشبثوا جيدا بأحلامهم أن يحطموا كل العوائق التى من الممكن ان تقف فى وجه طموحهم مهما تكلف الأمر.