لم يكد يجف حبر الإتفاقية التى كتبت كلمة النهاية لصراع دام ثمانية أشهر على الأراضى الأفغانية، بسبب فرز أصوات الناخبين فى انتخابات الرئاسة، إلا وبدأت الشكوك تفرض نفسها على الساحة السياسية الأفغانية، بل وعلى المهتمين بالشأن الأفغانى فى الأوساط الدولية، وبخاصة الراعى الأمريكى الرئيسي. فقد تنفس الجميع الصعداء بمجرد أن تم الإعلان عن انتهاء الصراع والشد والجذب بين الخصمين السياسيين الرئيسيين فى هذا البلد الذى مزقته الحروب ، وهما : وزير المالية السابق أشرف عبد الغني, ووزير الخارجية السابق عبد الله عبد الله، باتفاق مرض للطرفين ، بحيث يتولى الأول منصب الرئيس، والثانى منصب رئيس الحكومة بصلاحيات موسعة، بعد أن ظل كلاهما يؤكد فوزه فى انتخابات الرئاسة. وحظى الاتفاق بارتياح كبير من مختلف الأطراف وعلى أصعدة كثيرة، فعلى الصعيد الأمني، أوقف هذا الاتفاق سيول الدم التى كادت تراق فى شوارع أفغانستان فى حالة تصاعد هذا الخلاف ودخوله دائرة أخرى تقوم على أساس الصراع القبلى المسلح بين عبد الغنى وعبد الله، كما ساعد الإعلان عن الاتفاق فى بث الاستقرار فى البلاد من الناحية السياسية على الأقل، بحيث تستطيع هذه الدولة التى تعانى من إرهاب القاعدة وطالبان ومن وجود محتل أجنبى واقتصاد مدمر أن تتقدم وتكون لها قيادة واضحة تضع ملامح لخطط تنموية. أما على الصعيد العالمي، فقد حظى الاتفاق الأفغانى بتقسيم السلطة بترحيب واسع من مختلف قادة العالم، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة والتى بذل وزير خارجيتها جون كيرى جهودا مضنية، وكان الوسيط واللاعب الأساسى فى إتمام تلك "الصفقة"، كما وصفها قطاع عريض من الشعب الأفغاني. ولا يخفى على أحد السبب وراء الوساطة الأمريكية فى هذا الاتفاق، ثم شعور الرئيس الأمريكى باراك أوباما بالسعادة الغامرة بعد الإعلان عن الاتفاق، ليس فقط لحاجة إدارة أوباما لتحقيق انتصار دبلوماسى فى زمن كثرت فيه الانتكاسات والتراجعات بشهادة الكتاب والمحللين الأمريكيين أنفسهم، ولكن أيضا لمساعى الولاياتالمتحدة بشكل علنى لتوقيع اتفاق مهم مع القيادة الأفغانية الجديدة بشأن استمرار وجود عدد من القوات الأمريكية داخل الأراضى الأفغانية بعد انتهاء 2014، وهو ما يخالف إعلانها السابق بسحب جميع قواتها العسكرية بشكل كامل من أفغانستان بانتهاء 2014 بعد حرب دامت 13 عاما. وعلى الرغم من أن الاتفاق الأفغانى على تقاسم السلطة حل العديد من المشاكل، ولكن يراه البعض أنه علاج لعرض، وليس حلا لمرض، فأول من تأثر سلبا من هذا الاتفاق هو الناخب الأفغانى الذى احتسب صوته عند الله شهيدا، ولا يعرف ما إذا كانت هذه هى النتيجة الفعلية التى أسفرت عنها عمليات فرز الأصوات أم أن شيئا ما غير مفهوم قد حدث، مما أدى إلى "اتفاق سياسي". فقد كانت الانتخابات الأفغانية منذ بدايتها على صفيح ساخن بالفعل، ما بين اعتداءات وقتل وصراعات سياسية وعرقية بسبب الاختلاف العرقى بين المرشحين، إضافة إلى تهديدات طالبان بإفساد الانتخابات واغتيال الناخبين والمرشحين وتفجير اللجان الانتخابية وغير ذلك. ولكن على الرغم من ذلك، توجه الناخبون فى أبريل الماضى إلى اللجان الانتخابية للإدلاء بأصواتهم على أمل أن تكون هذه بداية جديدة للديمقراطية التى تحترم أصواتهم، ولكن هذا الحلم تحول إلى كابوس بعد أن خرج المرشح عبد الله رافضا النتيجة وأكد أنه تم تزوير الأصوات ليفوز بها عبد الغني، وأعلن انه سوف يقيم حكومة موازية بقيادته، الأمر الذى دفع بلجنة الانتخابات المستقلة فى أغسطس الماضى لإعادة فرز 8 ملايين صوت بإشراف الأممالمتحدة على العملية برمتها، لينتهى المطاف فى النهاية إلى عقد صفقة توزيع سلطات بين المتنافسين خلف الأبواب المغلقة، ضاربين عرض الحائط بالعملية الإنتخابية بالكامل، مما يعكس مدى الاستهزاء بالمواطن الأفغاني، ويشكك فيما إذا كان سيكرر نزوله للإدلاء بصوته فى أى انتخابات مقبلة. والأسوأ أن اللجنة العليا للانتخابات لم تعلن حتى يومنا هذا نتيجة لفرز الأصوات، وهى العملية التى يفترض أن تثبت نزاهة الانتخابات، وتثبت للشعب الأفغانى أن التوجه لصناديق الانتخاب والإدلاء بأصواتهم هو جزء من العملية الانتخابية التى تأتى فى النهاية برئيس للبلاد وفقا لإرادة الشعب، أو هكذا عرف الأفغان عن الديمقراطية التى جاءت إلى بلادهم مع بدء الاحتلال الأمريكى لأراضيهم فى 2001. وعلى صعيد آخر، وبعيدا عن نتائج الانتخابات، لم يوضح الاتفاق السياسى نفسه كثيرا من التفاصيل بشأن المهام الموكلة لكل طرف، بغض النظر عن توزيع الحقائب الوزارية بين الجانبين. وعلاوة على ذلك لا يمكن أن نغفل عن أساس المشكلة الأفغانية، وهو «طالبان»، والطرف الفاعل الأقوى على الأرض، حيث أعلنت رفضها الشديد للاتفاق ووصفته ب «الجهد الأمريكى الزائف»، مؤكدة استمرارها فيما سمته «الجهاد المسلح» ضد الحكومة الأفغانية الجديدة. ويظل السؤال الذى يطرح نفسه هو: هل الاتفاق على تقاسم السلطة بين عبد الغنى وعبد الله ستكون فوائده أكثر من أضراره؟ أما أنه سيكون بمثابة حبة مهدئة لفترة مؤقتة لجسد مريض بالكامل؟