هناك ظلم بيِّن، ومجافاة للحقيقة أيضاً، فى إلقاء كل المسئولية على القضاة فى بُطْء التقاضى وإحقاق الحقوق، يكفى فقط الإشارة إلى بند واحد يتفق عليه الجميع وهو الخاص بكثير من الأحكام النهائية واجبة النفاذ التى تصدر بعد طول نزاع أمام المحاكم، والتى ينتهى دور القضاء عندها، ثم يعجز المستحقون لها عن تنفيذها! وهو ما تُساءَل عنه جهاتُ تنفيذ الأحكام لا القضاة. وهذا مجرد عنصر واحد فى عملية معقدة تشترك فى مسئولياتها أطراف كثيرة فى إطار معقد من القوانين والإجراءات. والأطراف الأساسيون فى هدف تحقيق العدالة الناجزة، إضافة إلى القضاة، ينتمون إلى السلطتين الأخريين: السلطة التنفيذية، التى يمثلها أساساً وزارة العدل، والسلطة التشريعية الممثلة فى البرلمان، مجلس الشعب فيما مضى، ومجلس النواب فى المستقبل، وأما الآن، وبصفة مؤقتة وحتى تنتهى المرحلة الانتقالية، فإن هذا الجانب يدخل فى مسئوليات رئاسة الجمهورية التى يساعدها مجلس الوزراء. والعدالة الناجزة، التى كثر الكلام عنها خاصة منذ ثورة يناير، هى التجلى الواضح لهذا الكلام، هى التى تستهدف تحقيق العدل بين الأطراف المتنازِعة فى إطار نظام متكامل يشترك فيه كل هؤلاء. وليت المتقاضين أيضاً يسهمون فى تخفيف الأعباء على المحاكم بقصر لجوئهم إليها على النزاعات الكبرى التى يستحيل حلها فى إطار آخر، حتى يتسع المجال أمام القضاة للقضايا الأكثر أهمية. وهذا العنصر الأخير لا يُستهان به فى استنزاف المحاكم فى قضايا يُفترَض أن تسويها من المنبع جهات الإدارة أو العلاقات الاجتماعية التى يدخل المتنازعون فى إطارها. أنظر فقط إلى نموذج صارخ، مما يثقل كاهل المحاكم، فيما ما نشرته الصحف هذه الأيام مع بدء العام الدراسى، حيث ذهب بعضُ أولياء الأمور إلى المدارس، قبل أول يوم فى الدراسة، لحجز أماكن لأبنائهم فى الصفوف الأولى فى الفصول الدراسية، بل وضعَ بعضُهم سلاسل وأقفالاً ليُشكَّلوا مانعاً مادياً إذا فَكَّر أحدهم فى استخدام المكان، دون مراعاة للأطفال الآخرين ضعاف النظر أو قصيرى القامة الذين لم يبق لهم سوى الصفوف الخلفية! والغريب أن تعجز إدارة المدرسة عن حل النزاع فيُضطَر أولياء أمور التلاميذ المضارين إلى اللجوء إلى المحاكم!!. من المؤكد أن مثل هذه النزاعات ليست هى السبب الرئيسى فى بطء التقاضى وأن هناك أسباباً أهم، منها أن عدد السكان يزداد بمعدلات كبيرة، بما يترتب عليه من زيادة فى أعداد القضايا، وأنه لا تتواكب مع هذا زيادات مماثلة فى دور المحاكم ولا فى أعداد القضاة، كما أن هناك تدفقاً من القوانين الجديدة والتعديلات على القوانين الموجودة، إضافة إلى أحكام المحكمة الدستورية العليا التى تقضى بعدم دستورية بعض القوانين، ويبقى على القاضى واجب أن يُلمّ ويستوعِب كل هذا الفيض من النصوص وما يترتب عليها!. كما أنه مما يخرج عن مسئوليات القضاة أن يتم إنشاء دور المحاكم وأن تُجَهَّز بالمعدات الإلكترونية الحديثة التى تُسَهِّل سير العمل، وأن يتوافر العدد الكافى من الموظفين المؤهَّلين لمساعدة القاضى فى التفاصيل التى من المفروض ألا تتبدد طاقته فى إنجازها، فى حين هو مثقل بالفعل بمئات القضايا التى عليه أن يبتّ فيها بما يحقق العدالة دقةً واتقاناً. وفى خضم كل هذا ينسى البعضُ أن القاضى إنسان مثل غيره من البشر، قد يمرض وقد تطرأ عليه ظروف خاصة أو عائلية تجبره أحياناً على أن يتفرغ لها بعض الوقت. بل إن مصلحة العدالة أن يتفرغ القاضى لشأنه فى هذه الظروف حتى لا يتأثر عمله سلباً. لقد أثارت بعض القضايا مؤخراً فزعاً فى صفوف الرأى العام، وليس هناك ما يُفسِّر للناس أسباب البطء المميت، وقد جرى القبض على المتهمين فى بعض هذه القضايا، وبعضهم اعترف بجريمته، ومع ذلك لم تصدر الأحكام بعد، ومن أهم هذه الجرائم الاغتيال الوحشى للجنود فيما سمى مجزرة رفح الثانية، وجريمة كرداسة المروِّعة التى ذُبِح فيها رجال الشرطة. أمامنا مشوار طويل حتى تتحقق إمكانية إقامة العدالة الناجزة، ولدينا مهام كثيرة تقاعست النظم السابقة عن حلها فصارت أصعب تحققاً مع الأيام، ولكن لا فكاك من السعى الجاد العاجل على إنجازها، حتى من قبل أن يبدأ مجلس النواب القادم عمله، على الأقل فى الأمور العاجلة التى يمكن تحقيقها مثل التشريعات الضرورية لتقصير مدة التقاضى. والأمل معقود على أن تتحقق شعارات الثورة المطالِبة بالعدل مع بدء أعمال مجلس النواب الجديد، الذى سيكون عليه متابعة أعمال الحكومة فى القيام بمسئوليتها فى هذه المهام، إضافة إلى دوره التشريعى خاصة فى توسيع قاعدة الهيئة القضائية ووضع الشروط الخاصة بالكفاءة وتكافؤ الفرص. لقد أثار المشتشار أحمد الزند رئيس نادى القضاة عدداً من المسائل المهمة، فى عدة تصريحات، ليس فقط فى شكواه من بطء التقاضى، وإنما كان الأخطر ما يخصّ ملاحظاته الجوهرية عن الاختراق الذى تعرضت له الهيئة القضائية من تعيينات حدثت فى عهد مرسى، وقال إن هناك أكثر من 1400 قاض غير محايدين لأنهم ينتمون إلى تيارات سياسية، بل وقال صراحة إن المنظومة القضائية تحتاج إلى إعادة نظر من الألف إلى الياء، وأضاف أن هذا لن يتحقق إلا بثورة تشريعية تسدّ الثغرات القانونية التى يستخدمها البعض فى سبيل تحقيق أهدافه. إن التسليم بضخامة المشكلة لا يعنى أن الحل مستحيل، لأن هناك دولاً كثيرة وجدت الحلول، برغم أنها أكثر منا فى عدد السكان، كما أن بعض هذه الدول أكثر تطوراً تخوض فى أنواع من النزاعات بين المتقاضين لم تدخل مصر فيها بعد. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب