استوقفنى موزع البريد بالكلية التى أعمل بها، وسألنى بتشكك عما إذا كنت سأتسلم منه خطاباً لى أو يرده إلى الجهة التى جاء منها. وعندما سألته عن السبب الذى يتوقع عدم تسلمى للخطاب من أجله، فإنه قد ردَّ قائلاً: لأنى قد وجدته مفتوحاً هكذا، ورفعه فى يده. التقطت منه الخطاب لاكتشف ما وراءه، فإذا بى أجده مختوماً بخاتم مكتب بريد فى القدس، وعليه كتابة بالعبرية، فتفهمّت الدوافع وراء فتحه.فإنه يلزم الوعى بأن التأكيد على ضرورة احترام الخصوصية كأحد الحقوق المقررة للفرد، لا ينبغى أن يجعل المرء يتجاهل حقيقة أن الإنسان ليس محض وجودٍ فردى منعزل، ولهذا فإن ثمة حقوقاً للبشرتعلو على ما لكل واحدٍ منهم من الحق كفرد. وعلى أى الأحوال، فإنى قمت بسحب الأوراق الثلاث المطوية فى المظروف، فوجدت مخاطبة من الكاتب الإسرائيلى «شاءول منشَّة» يطلب منى فيها التعليق على مقاله الذى أرفقه بالرسالة، وكان قد نشره بالعربية على موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية،لينتقد فيه - ببعض الحدة والسخرية- ما ذهبت إليه من المماثلة بين إسرائيل وداعش. ولعله يلزم البدء من بيان الأطروحة القائلة بالتماثل بين داعش وإسرائيل، ثم مناقشة محاججة شاءول على أن هذا التماثل بينهما هو - على قوله - ضربٌ من الخيال المجنَّح. والحق أن مقارنة بين داعش وإسرائيل تقف عند حدود السطح لابد أن تؤول إلى ما انتهى إليه السيد منشَّة؛ حيث تكاد إسرائيل تكون تمثيلاً للحداثة فى أعلى تجلياتها، وذلك بينما تسعى داعش إلى إخراج ما فى بطون كتب التاريخ القديمة ليتجول حياً فى عوالم العرب رغم كل دمويته وبؤسه. ولكن تحليلاً يتجاوز هذا التباين السطحي، لابد أن ينتهى إلى إدراك التماثل بينهما قائماً على مستوى الأفكار التأسيسية الكبري. ولعل الفكرة التأسيسية الكبرى الجامعة بين داعش وإسرائيل تتمثل فى الإيمان بخصوصية الجماعة وسموها الخاص. فرغم ما هو معلومٌ للجميع من علمانية الإيديولوجيا الصهيونية التى أقامت دولة إسرائيل، فإن هذه الإيديولوجيا (العلمانية!) قد عملت على استدعاء كل ميراث العقائد - حتى لا يُقال الأساطير - القديمة لتؤسس عليها دولتها؛ والتى كان من أهمها الاعتقاد فى الاصطفاء الإلهى والوعد بالانتصار النهائى والتمكين فى الأرض التى وعدهم بها الرب، وغيرها من معتقداتٍ وأساطير تظل للآن هى المغذية للفكرة الصهيونية. وإذ هو الاصطفاء الإلهى للجماعة والوعد لها بالتمكين فى الأرض، فإن الكيان السياسى الذى ستحقق من خلاله الجماعة تمكينها لابد أن يكون كياناً نقياً خالصاً، لا مكان فيه لغير المؤمنين بما تعتقد فيه. ومن هنا أن المطلب الإسرائيلى الأهم من الفلسطينيين والعرب الآن هو ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة لليهود دون سواهم؛ وبما يعنيه ذلك من الاعتقاد فى إيديولوجيا النقاء التى تؤول إلى وجوب طرد الأغيار. إن ذلك يعنى أن الإيديولوجيا العلمانية لا تفعل إلا أن تؤسس نفسها على ما يرقد فى بطون التاريخ والكتب الأقدم؛ وبما يعنيه ذلك من التماثل الكامل مع ما تفعله داعش من استدعاء ما كان الناس قد تصوروه تاريخاً مدفوناُ فى بطون المدونات القديمة، فإذا بهم يجدونه حياً يتجول بينهم. وفقط، فإنه بينما يتخفى هذا المنبعث من بطون التاريخ فى إسرائيل وراء براقع الحداثة الكثيفة، فإنه يعود فى حالة داعش على نفس هيئته الساذجة، مرتدياً سراويله القديمة نفسها. ومن جهتها، فإن داعش لا تختلف فى امتلاكها لنفس أفكار الاختيار والوعد بالتمكين وغيرها من أفكار اصطفائية؛ وبما يعنيه ذلك من الاعتقاد فى ايديولوجيا النقاء التى تجبر حامليها على ممارسة ضروبٍ من التطهير لكل المغايرين فى الدين أو الطائفة أو حتى الاختلاف تحت مظلة نفس الفكرة بمثل ما هو حاصل بين داعش وجبهة النصرة الآن. وهنا يلزم التنويه بأن الفكرة الكامنة عن الاصطفاء والنقاء التى يقوم عليها الكيان السياسى لإسرائيل وداعش هى ما يؤسس، فى العمق، لكل العنف الذى يصدر عن هذين الكيانين. وفقط فإن التباين بينهما يأتى من أن هذا العنف قد يكون نشطاً فى حالة وخاملاً فى أخري. فإذ تستدعى مرحلة التأسيس زيادة فى نشاط العنف، فإن لحظة أخرى فى مسار الوجود التاريخى قد تجعله خاملاً، على أن يكون معلوماً أن خموله لا يعنى الغياب الكامل له أبداً. وإذا كان ذلك هو ما يؤسس، فى العمق، للتماثل بين داعش وإسرائيل، فإن السيد «شاءول منشَّة» قد راح يتجاهل ذلك التماثل البنيوى الذى لا يمكن القفز فوقه، وأدار انشغاله على إظهار التباين بين إسرائيل الراهنة، وبين داعش الآن من حيث ما يتعلق بأساليب الحياة. وإذا كان أحداً لا يقدر على إنكار هذا التباين، فإن المراوغة هنا تتمثل فى سكوت السيد شاءول عن السبب العميق فى هذا التباين. إنه يريد أن يؤسس على ما يراه من التباين بين إسرائيل وداعش، أنهما لا يقومان على الفكرة نفسها التى تؤسس للعنف. وينسى أن التباين بينهما إنما يأتى من حقيقة أن الفكرة الواحدة لا تعمل بطريقة واحدة فى سياقات تاريخية متباينة؛ وبمعنى أن اختلاف السياق التاريخى يجعل الفكرة تعمل بطرائق مختلفة. إن ذلك يعنى أن التباين بين إسرائيل وداعش لا يعنى أن الفكرة التى تقوم عليها إسرائيل تغاير تلك التى تقوم عليها داعش، بقدر ما يعنى أنهما يتأسسان على نفس الفكرة الاصطفائية الواحدة. ولكى يتأكد السيد «منشَّة» من التماثل بين داعش وإسرائيل، فإنه ليس عليه إلا أن يعود إلى تاريخ المذابح والدماء الذى انبعثت منه إسرائيل. ولعله يدرك حينها أن القرابة مع داعش ليست فقط قرابة جغرافية، بل أيضاً قرابة تاريخ.... لمزيد من مقالات د.على مبروك