المهمة الأولى للجيوش حماية حدود البلاد ضمانا لأمنها القومى؛ ولكن الجيش المصرى خرج من ثكناته للمرة الأولى فى 9 سبتمبر 1881 بقيادة أحمد عرابى متجاوزا دوره التقليدى ومتجاوزا أيضا حدود المطالبة بتحسين أحوال الضباط، محاولا تغيير الوجهة السياسية للبلاد باعتباره ممثلا للشعب ومعبرا عن رغباته وحاميا لإرادته، ومنذ ذلك الحين لم تعد تلك الظاهرة الاستثنائية - رغم تفاوت بل تصارع مواقفنا حيالها - غريبة علينا عبورا بيوليو 1952؛ ويناير 2011؛ حتى يوليو 2013. ترى كيف كانت البداية؟ لقد كان الجيش «المصرى» خاليا من المصريين، معتمدا على الضباط الجراكسة والجنود العبيد المستوردين إلى جانب الجنود الأتراك والألبان الذين بدأوا فى التذمر حين بعث بهم محمد على إلى السودان وكانت هذه اللحظة وفقا لما ورد فى كتاب خالد فهمى «كل رجال الباشا» هى اللحظة التى فكر فيها الباشا لأول مرة فى تجنيد سكان مصر المحليين فكتب بتاريخ 18 فبراير 1822 إلى أحد عماله «أنه أصبح من الضرورى جمع عدد من الجنود من الصعيد، ولذلك وجدنا من المناسب أن تجند حوالى أربعة آلاف رجل من هذه المديريات» ومع توالى الأحداث سيق الفلاحون قسرا مجبرين على ترك الأرض والفأس والمحراث لحمل البنادق والتدرب على القتال وإطلاق الرصاص. ولكن ظلت المدرسة الحربية التى يتخرج فيها الضباط مقصورة على الأتراك وبعض أبناء الجاليات العثمانية الأخرى من غير المصريين، وظل المصريون فى الجيش كجنود فقط، وكان من بين هؤلاء الجنود أحد أبناء الفلاحين وهو أحمد عرابي، وبعد ضغوط واحتجاجات تم السماح لهم بالترقى إلى مصاف الضباط بعد تمضيتهم فترة دراسة وجيزة بالمدرسة الحربية على أن تقف ترقيتهم عند درجة الصاغ، وكانت أول دفعة من هؤلاء وهى دفعة عام 1866 تضم أحمد عرابى، ثم تظاهر الضباط للمطالبة بفتح الباب أمامهم للترقية وتم لهم ذلك، ووصل عرابى إلى رتبة الأمير الاي، ومن ثم حصل على الباشاوية. وهكذا شيئا فشيئا و بصرف النظر عن نيات السلطة، وبصرف النظر أيضا عن تذمر أبناء الفلاحين من إجبارهم على الخدمة العسكرية، فقد كانت تلك هى البداية الموضوعية لتشكيل جيش مصرى يستطيع شيئا فشيئا مناهضة السلطة باعتباره معبرا عن الشعب. وقد لاحظ المفكر اللامع سعد زهران أن ثمة مفارقة لافتة فى التاريخ المصرى، فكتب تحت عنوان «التقاليد الليبرالية فى الثورة العرابية» كيف أن الجيش كان بمثابة قلب العملية الثورية والمبادر بها وليس الهيئة التشريعية كما حدث فى إنجلترا، وفسر الأمر بأنه «لم يكن مصادفة بل كان نتاجا طبيعيا للأحداث التاريخية التى تلاحقت على مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، فقد ركز محمد على جهوده فى التجديد والإصلاح لأكثر من ثلاثين عاما على الجيش، وخصه بآخر كلمة وصلت إليها البرجوازية الأوروبية فى العلم والصناعة، وأوفد من أجل ذلك البعثات العديدة إلى فرنسا التى عاد كثير من أفرادها إلى مصر يحملون معهم الفكر الليبرالى فى آخر صياغة» ولعل الاستعمار قد أدرك مبكرا ما للجيش من خطر، فبدأ بإغراق الخديو بالديون و فرض الرقابة المالية على الحكومة عام 1875 واتجه إلى الجيش يخفض عدده ويوقف الترقيات خاصة بالنسبة لمن تمت ترقيتهم من الجنود أبناء الفلاحين، وصدر بالفعل قرار بفصل 2500 ضابط كان قد توقف صرف رواتبهم، فتظاهر الضباط فى 18 فبراير 1879 أمام رئاسة الوزراء وتدخل الخديو واستجاب للطلبات، ولكن لم يلبث أن أعلن المراقبون الأجانب إفلاس خزانة الدولة فى إبريل 1879، وتوالت الأحداث إلى اليوم المشهود التاسع من سبتمبر 1881 حين تجاوز الضباط بقيادة عرابى الدفاع عن مطالبهم الخاصة إلى الدفاع عن مطالب الأمة التى تمثلت أساسا فى زيادة عدد الجيش المصرى إلى 18000 جندي، وتشكيل مجلس شورى النواب على النسق الأوروبي؛ واشترك الضباط مع الأعيان والمشايخ وعلماء الأزهر فى تبنى تلك المطالب، ولم يكن لقوى الاستعمار أن تسمح لمصر بوضع قدمها على طريق القوة والتحديث، فسرعان ما استغلت واقعة حدوث مشاجرة فى 10 يونيو 1882 قام خلالها أحد رعايا بريطانيا من أبناء مالطا بقتل مصرى وتطور النزاع ليسقط العديد من القتلى وتستغل إنجلترا الواقعة لتطلق عليها اسم «مذبحة الإسكندرية»؛ وتدعو الدول الأوروبية على الفور لعقد مؤتمر فى 23 يونيو 1882 فى الأستانة للنظر «فى المسألة المصرية وتطورها». وفى 11 يوليو 1882 بدأت المدافع البريطانية تقصف قلاع الإسكندرية، وتجمعت أطياف عديدة للقضاء على الثورة. تجمع الرجعيون المصريون مع الخونة فى جيش عرابى تحت مظلة قرار السلطان التركى بنزع الشرعية عن زعيم الثورة مما أدى إلى تخلخل شعبيته؛ وانكسر عرابى وسيق مع رفاقه إلى المنفي. ولكن دروس الهزيمة تظل إذا ما استوعبت زادا للمستقبل يتعلم منه الجميع، وعلى رأس هذه الدروس: إن الفصل بين الجيش والشعب يصيب الثورة فى مقتل، وأن التراجع المؤقت للقوى الرجعية لا يعنى بالضرورة انتصارا للثورة, والدرس الثالث أن تحديث مصر يعد من أهم المحظورات بالنسبة لأعدائها. لمزيد من مقالات د. قدري حفني