لا أعرف بالضبط ما هي الأسباب التى جعلتنى أهتم بأمر هذا الشيخ الغامض المسمى بالشيخ الأربعين؟!. الأمر لم يقف عند حدود الاهتمام، بل صارهذا الشيخ المجهول مثار إعجاب ودهشة بسبب كثرة أضرحته في طول مصر وعرضها، حيث تنشر أضرحة ومقامات الشيخ الأربعين وهناك طرق وأحياء ونجوع تسمى باسمه ومع ذلك فلا توجد ثمة معلومات مؤكدة عن ذلك الشيخ. أنظر إلى الخريطة فأجد درب الأربعين الممتد بين الصحارى المصرية ليربطها بقلب السودان وهذا الدرب كان طريقا تجاريا يزخر بالثروات المارة في تعرجاته الطويلة كما أنه كان طريقا للحج وكذلك للمتصوفة القادمين من السودان إلى مصر ويقال إنه كان يسير فيه أتباع أربعين طريقة صوفية أو أن القوافل كانت تسير فيه لمدة أربعين يوما بلياليها، لتبلغ المحطة الأخيرة في سوق الجمعة بمنطقة إنبابة «إمبابة». وهناك وادي الأربعين بسانت كاترين وهو يقع في منطقة في منتهى الوعورة. ففي قلب الصحارى وأعلي الجبال وفي القرى والمدن والنجوع والكفور في صعيد مصر ودلتاها وفي الأحياء العتيقة، تجد هذا الشيخ قابعا في ضريحه تحت قبته.. لا أحد يعرف من هو ولكنه على أي حال يثير اعتقادا بأنه من الصالحين ولذلك يقف الناس يدعون على شباك المقام ويقدمون النذور ويضيئون الشموع شأن ما يفعلونه مع أي ضريح آخر. ولكن لماذا الإصرار على أنه شيخ واحد متعدد المقامات والأضرحة وليس أربعين شيخا؟! هذا وارد أيضا لغرابة الاسم، خاصة أن هناك قصة ساذجة غير مقبولة منطقيا وواقعيا، بأن الأربعين هم في الأصل أربعون شيخا كانوا قد وفدوا على أحد أقطاب الصوفية في مصر وتفرقوا في البلاد، فكلما مات منهم واحد أقاموا له مقاما باسم الشيخ الأربعين. لكن عدم وجود سيرة أو قصص للشيخ الأربعين يؤكد أن في الأمر لغزا، خاصة أن الأضرحة متعددة وتتراوح ما بين الأضرحة الضخمة الفخمة التى بنيت حولها مساجد وأصبحت مزارات وتقام لها الموالد، وبين أضرحة صغيرة منزوية تكاد تندثرمن فرط الإهمال، كما أنه لا توجد سيرة خاصة بأي ضريح منها. حتى ضريح سيدي عبد الله الأربعين الشهير في مدينة السويس وهو الأشهر، لا يكشف لنا السر بل قد يزيده غموضا، فلم نعرف منه سوى أن الشيخ عبد الله كان قادما من إفريقيا واستقر في السويس عندما كان المصريون يقومون بحفرها بالسخرة، فكان يقف في صفوف العمال يخفف عنهم محنتهم ويؤازرهم ولما مات أقاموا له ضريحا باسم الشيخ عبد الله الأربعين ثم بنوا مسجدا كبيرا باسم مسجد الأربعين أعطى اسمه للميدان المشرف عليه وكذلك المنطقة المحيطة، فصار أكبر وأشهر ميادين وأحياء السويس. لكن لا أحد يجيب عن سؤال: لماذا سمي الشيخ عبد الله بالشيخ الأربعين؟!.. وهل كان هناك مقام للشيخ الأربعين قبل قدوم الشيخ عبد الله أم لم يكن؟!. على أي حال انتشار الأضرحة القديمة للشيخ تؤكد أنه أقدم من ذلك بكثير وغالبا يرتبط اسمه بطريق أو سكة أو وادي أو درب وكأنه كان دائم السفر والترحال وهو ليس بمستغرب من سير الصوفية العظام. وفي قلب القاهرة القديمة في منطقة أم الغلام المجاورة للمشهد الحسيني، هناك ضريح صغير منزو باسم الشيخ الأربعين، لا يكاد يهتم به أحد ورغم أن كل مقام يضم رفات شيخ أو أكثر يعرف ولو قليل من الناس الذين يعيشون حوله او المهتمين بتتبع سير الأولياء، كل كبيرة وصغيرة عنه، إلا أن الأمر يختلف تماما مع الشيخ الأربعبن، فلا تجد أحدا لديه معلومة شافية عنه. الأمر كذلك في حارات حي الدرب الأحمر هناك قبة صغيرة ومنخفضة على ضريح صغير جدا والغريب أن له نافذة يقف أمامها الزائرون وليس له باب!. وهناك رأي صادف الهوى، عندما وجدت الأديب الكبير جمال الغيطاني عاشق التراث المصري، يفسر انتشار أضرحة هذا الشيخ بالعودة إلى أسطورة إيزيس وأوزوريس الشهيرة التى اخترقت إلينا القرون في قصة مازالت حية نابضة لعلها أول وأشهر الإبداعات القصصية التى أنتجتها القريحة الإنسانية على مر العصور، ففي الملحمة الخالدة قام «ست» بتقطيع جسد أوزوريس ووزعه على أقاليم مصر «الأربعين» حتى لا تتمكن زوجته إيزيس من إعادة الحياة إليه، وصارت كل ناحية تفخر بأن فيها حزءا من القطع الأربعين لأوزوريس الذي صار إلها للحياة الآخرة عند المصريين القدماء وانتشرت عبادته ضمن الثالوث الشهير«إيزيس وأوزوريس وحورس» في ربوع مصر، بل ووصل تقديس الأم «إيزيس» إلى بلاد أثيوبيا والسودان تلك التى ارتبطت بها كثير من الطرق الصوفية ومازالت الرحلات الصوفية المتبادلة بين مصر وأفريقيا حتى الآن خصوصا على مستوى علاقات الطرق الصوفية الشعبية. ونلمح تشابها بين طريقة تقطيع جسد أوزريس وإقامة معابد عليها مع سير بعض القديسين في التراث القبطي المسيحي، لاسيما قصة الشهيد مارجرجس الذي انتشرت أديرته ومزاراته في طول مصر وعرضها، حتى صار أشهر القديسين في مصر، حيث تؤم الجموع الغفيرة من المصريين «مسيحيون ومسلمون» الاحتفالات في الأديرة. ولا عجب في تعدد مقامات ومزارات الولي أو القديس الواحد في مناطق عديدة، إذ تبرر قصة انتقام الأعداء منه بتقطيع جسده هذا التعدد، فإن لم ترد قصة بذلك عنه، فتلجأ القريحة الشعبية إلى تبرير التعدد بأن الولي أو القديس قد قام بوضع علامة في المكان المراد بناء مقام له فيه وتكون هذه العلامة موجهة إلى أحد الصالحين الأحياء وتأتى غالبا في رؤية منامية يحدد فيها الولي مكان مقامه الجديد، وقد ورد هذا بوضوح في قصة بناء مقام السيدة زينب في القاهرة. ويبرر المؤمنون ذلك، بأن الولي أو القديس يريد أن تعم بركته في أماكن كثيرة. فهناك مثلا أحد أقطاب الصوفية وهو الشيخ الزاهد إبراهيم بن أدهم له قرابة «الأربعين» ضريحا باسمه في أنحاء مصر، بالرغم من أن سيرة إبراهيم بن أدهم لم تقع من بين أحداثها الواردة أية وقائع مرتبطة بمصر ولم يتخذها موطنا، غير أن العقلية الشعبية لا تهتم بما هو حقيقي ولا تعترف به إلا بما يروق لطبيعتها مهما كانت الأدلة والقرائن، فالأساطير الشعبية المنتشرة حول الأضرحة وسير الولاة والقديسين، لا تهتم بالوقائع التاريخية ولا تعتنى بها بقدر ما تبحث عن المواعظ والانبهار بكرامات الأولياء ومعجزاتهم مهما كان من غرابة هذه المعجزات، فالمؤمنون بذلك متسقون مع أنفسهم أشد الاتساق الذي يضمن لهم الاطمئنان بمعتقداتهم والارتكان عليها في حياتهم الروحية. ولا يمكن ألا نلحظ أنه في لوحة المحاكمة الشهيرة في المقابر الفرعونية، نرى في الإطار اثنين وأربعين معبودا يمثلون معبودات أقاليم مصر الإدارية في تلك العهود الغابرة. وليس بخاف أن رقم الأربعين في حد ذاته رقم له دلائل كبيرة لما يحظى باحترام يصل إلى حد التقديس، وورد في كثير من النصوص الدينية الواردة في الكتب السماوية في أكثر من مناسبة. واليوم الأربعين له أهمية كبرى في الحياة الشعبية المصرية، فيحتفل بيوم الأربعين للميت. كما تحرص كثير من الأسر على الاحتفال بأول أربعين يوما في الحياة الزوجية الجديدة، فكان إلى وقت قريب في بعض القرى، تتكفل أسرة الزوجة بإطعام الزوج بطيورالحمام مدة أربعين يوما متواصلة وكذلك يوم الولادة الأربعين لكلا من الأم والمولود. ويكاد رقم «الأربعين» يكون المنافس الوحيد لرقم «سبعة» في المكانة والتقديس. فحتى لو لم يكن هناك أولياء أو رجال صالحون أو حتى أشخاص عاديون يحملون الاسم أو عدد الأربعين، فتكفي مكانة الرقم في نفوس المصريين، لتبرير هالات القداسة لكل من يحمله اسما أو لقبا أو عددا ولو كان مجهولا!.