من وحى الخيال المحلق، ومن عالم الأحلام التى لم تجد أرضا تهبط عليها، تلقيت رسالة، أوراقها مبللة بالدموع، كاتبتها المجهولة دوما، أرادت الرد على الرسالة الواردة فى مقال الأخ والصديق حسين الزناتى الذى نشر هنا الأسبوع الماضى، تحت عنوان «يا حبيبتى..لا تبكى بعد رحيلى»، صاحبة الرسالة الخيالية، كتبت تقول... يا حبيبتى؟! ألازلت تقولها؟! ألازلت تذكر حبيبتك حتى بعد رحيلك؟ أأفرح الآن بحبك أم أبكى لموتك؟ ولكن، انتظر، قلت لى «لا تبكى»، ليس رأفة بى أوتخفيفا لألمى، بل لأن البكاء على المحبوب الراحل شرف لا يستحقه إلا من أحب فأخلص وأوفى، لا من خان وباع وتخلى، هكذا قلت، واتهمت، ولكن، انتظر. اسمعنى الآن، يا ظالمى، فطالما سمعتك وعجزت عن الرد، ربما لأن عينيك لم تعودا أمامى أصبحتُ أقوى على الرد، ربما لأن عينى فاضتا أخيرا بأنهارهما، قررت الروح والنفس أيضا أن تبوحا بآلامهما. نعم انه الألم، الذى تظن أنك كنت وحدك حبيس جدرانه، انه الحب، الذى قلت اننى لم أخلص به. ... بل أحببتك، نعم أحببتك، يا ظالمى الساكن دمى، كنت دوما معلمى، سيدى، قائدى، الحالم الحامل لى على جناحه، الى عالم لم أدركه حتى فى خيالى، أيمكن أن يحب رجل هذا الحب؟ أيمكن أن تتعلم امرأة الحب على يد رجل؟ كنت أنت هذا الرجل، الذى صدقتُ حلمه، وحلمتُه. حاربتُ لأجل أن يصبح الحلم واقعا، لأجل أن يشرق فجرٌ جديدٌ تولد فيه طفلة، طالما حلمت بقائد معلم، بحبيب يعيد ترتيب أرجاء النفس الحائرة. حاربتُ لأجل حلمك وحلمى، حاربتُ قدر استطاعتى، ولم أخن، فالخيانة فى الحب، كما الحرب، هازمة قاتلة، وقد قُتلنا حقا، أنت وأنا، لكن بلا خيانة، بل بالضعف! أحلام الصغار يا صغيرى دوما كبيرة، أكبر كثيرا من واقعهم، الواقع الأقوى، الحاد العنيف، الصارم الصادم، واقع لا يفهم الأحلام، ولا يعرف لغتها، فيدهسها، ويقهر أصحابها، أولئك الصغار. كنت ضعيفة، كما تعرف، لا سيما بدونك. كنت صغيرة فى معركة، لا أملك سلاحا فيها سوى الحلم، وهل يقوى الحلم على أن يهزم بريق الذهب؟ وهل تصمد الأذن وسط طنين الناصحين المبشرين بالمستقبل بالمضمون؟ وهل تنتصر النفس وحيدة فى عزلتها أم ترضخ وتنكسر لارضاء المحيطين؟ رضختُ، وفشلتُ، وهُزمتُ، ولم ترسم دموعى طريقى، بل خطه آخرون، ربما لا يحبون، لا يحلمون، قل اننى ضعفت، لكننى ما خنت، أبدا ما خنت. فى ذلك اليوم الأخير، يوم افتراق الطريق، يوم موتك الأول كما تقول، لم أكن حبيبتك التى تتركك، لم أكن تلك المغرورة التى تقتلك، بل كنتُ جيشا عائدا مهزوما فى الحرب بلا سلاح، كنتُ نفسا عادت أشلاؤها تنهشها، بعد أن كنت أنت قد رتًبتها، وروّضتها، كنتُ شبحا فى صورة انسان، غدا بلا حلم أو حياة. ومع ذلك، فقد كنت أنت يومها معركتى الأخيرة، نعم جئتك أرتدى ثوبا رديئا من القسوة، لأغطى جسدا كاملا من الدموع، قوتى الوحيدة فى ألا يظهر دمعى، كى لا يكون للحلم ذيول، وقد رحلنا، فكان موتك الأول كما تقول، أما أنا فكان يومها موتى الأول والأخير، وكم فى الأرض من موتى على قيد الحياة! والآن، من القاتل والمقتول؟!..أنت وأنا.. حلم وواقع.. من الظالم والمظلوم؟! والآن، بعد رحيلك، أما آن للدمع أن يجرى؟ أما آن للنفس أن تعلن انكسارها الأخير؟! ألا يرفق ميت راحل بميت على قيد الحياة؟! ... بل بكيتك، بكيتك يا ظالمى الساكن دمى، بكيتك ليلة كاملة وحدى، حتى البكاء عليك ليس مسموحا به أمام من حولى. وفى الصباح، كعادتى مضيت الى عملى، وقبل خروجى، جاءتنى كلماته، «لم كل هذا السواد؟! ألدينا فى البيت ميت؟!». لم أعرف بماذا أرد، تمتمت، «عادى..عادى»، وانصرفت، لكن صداها ظل يتردد دوما فى نفسى، أيها الساكن روحى رغما عنى.. عادى.. عادى.. عادى. [email protected]