كنا وقوف يغالبنا ليل الشتاء وبرده في غمار ثورة25 يناير ضمن( كثير) من لجان شعبية متناثرة شكلها الأهالي في بر مصر لحماية البيوت والممتلكات, يربطنا جمعيا رابط واحد هو الخوف من( المجهول) و( والتشكك) في كل ما حولنا, وسط أجواء كانت تتلاطمها أمواج واقع جديد كان غريبا علينا جمعيا نحن الواقفين!! ومع بشائر الفجر,كنا نخرج مثقلي الخطي بغير اتفاق بيننا من رحم تحصينات تلك اللجان نحو الطريق الرئيسي, نطالع وجوه العائدين زمرا لتوهم من ميدان التحرير, يبادلوننا السلام عن بعد بأصوات قد بحها فرط الصياح, ومنهم من كان يدنو منا فيصافحنا بالأيدي فتدور بيننا وبينه أحاديث ممتدة ذات شجون, وقودها كثير من أسئلة تبحث عن إجابات تدور بخلدنا من بعد أن فقدنا بوصلة إدراك ما كان يجري من حولنا تماما,وكثير من إجابات كنا نتلقاها كانت تدور جميعها حول محور واحد هو أننا لم نكن نستوعب المتغير الجديد,وسط تأكيدات( جازمة) من جانبهم بأن النظام ساقط ساقط لا محالة من قبل أن يسقط بالفعل النظام!!18 يوما ونحن علي هذا الحال,وعيونهم ملآي خلالها بمنتهي الثقة والإيمان المفعم بما هم فاعلوه, وبنتائج ما هم فاعلوه, و لم تكن ترتسم علي وجوهنا نحن حينئذ سوي أكبر علامات الاستغراب والارتياب فيما كانوا فيه يعتقدون!! وتمر من ذاك العام شهور, ولم تزل أصواتهم في آذاننا تدوي, حتي كان أن رأينا رأس النظام جاثما فوق سريره خلف القضبان, ثم كان أن رأينا سدنة نظامه ونجليه إلي جواره في الأقفاص ممتثلين!! وحينئذ فقط أدركنا( نحن) أن الثورة قد قامت ونجحت; وعلمنا أن الثوار كانوا بحق يعلمون.. ولكن إدراكنا هذا( وللغرابة) تزامن مع أبعد نتيجة لم نكن نحن والثوار معا بالفعل نتصورها ذ ألا وهي أن الثوار أنفسهم هم الذين أصبحوا لا يدركون!! نعم, لقد انقلبت الآية رأسا علي عقب, فقد أدركنا نحن أن ثورتهم قد نجحت, ولكن الثوار مازالوا بنجاحها يجهلون!! وانظر بعمق ما استطعت إلي ما يعج به الشارع( اليوم) من غليان موقوت, كلما خمدت نيرانه يفور!! وانظر إلي تلك الحماسة المرتسمة علي وجوه ثائري( اليوم) فلا أجد بصيص اطمئنان كمثل الذي كنت ألمحه في بداية الثورة بالعيون!! ما الفرق بين الأمس واليوم ؟ وكيف يمكن للقلوب أن تطمئن إلي بلوغ النتائج ولم يزل الحلم معلقا بالحناجر,فلما يتحقق الحلم ويتهاوي النظام إذا بالعيون تملأها الظنون ؟ يا إلهي, يبدو أن العنف المتقد( اليوم فقط) في نفوس هؤلاء ليس مغزولا من ثوب الثورية في شيء, وإنما العنف اليوم هو وليد خوف دفين!! نعم, إن هؤلاء القوم( اليوم) خائفون ربما بأكثر مما كان بعضهم( في البدء) يزعمون!! ولعل خوفهم هذا هو مبعث الشك والتوجس في كل ما يقال أيا كانت ماهية من يقولون!! وإذا كنا بالأمس قد تجرعنا تبعات نخب ثورتهم, فها نحن( اليوم) نتجرع نخب ما هم منه مرتعدون ؟ فبالأمس كان الحشد يطمئنهم, وكانت ملامح الوجوه تتلاشي وسط زحام الواقفين,وكانت الصيحات والهتافات القوية التي تزلزل العروش سلواهم, ألا( بملايين) الحناجر تطمئن قلوب الثائرين ؟ أما اليوم,وقد( تشرذم) الجمع,وتحزب( المتحزبون), وتكشفت الوجوه تماما والأقلام واختلفت النيات وشارفت حد الجنون, ها هي برودة يناير ترتد إلي صدور( البعض منهم) وتتسرب فجأة إلي جوف البطون, ثم إذا بهواجس الماضي تستعيد مكانها حتي أنها لم تعد تري ذلك الراقد فوق سرير المرض خلف القضبان رمزا لمصيره المحتوم, وإنما تراه نذير فزع ورهبة من بقايا نظام قد يلملم أشلاء قوته فيعود من بعد أفون!! فإن لم يكن هو بشخصه فربما أذناب له زاغت عنها العيون!! ولربما تنتصب المشانق فجأة لتلتف الحبائل حول رقاب( المتورطين).. ثم تسألني لماذا هم محزنون؟ إن الثورة علي شكلها الحالي في مخيلة( بعض)من هؤلاء( اليوم) هي أقرب إلي ورطة وإن كانوا لا يفصحون!! فمن صنع( نصف ثورة) كان كمن حفر قبره بيديه.. هكذا قال القدامي وهكذا هؤلاء يظنون!! احتكاكات ومصادمات غير مبررة بين اليوم والآخر, نراها نحن مناوشات, ويرونها هم مجسات وبالونات اختبار لما( يظنون) أنهم عليه مقدمون, فلما يثبت( في كل مرة) عكس ما توقعوه,إذا( بالبعض) منهم بدلا من أن يستكينوا( يتآمرون)!! وكأنهم في واقع الأمر غير مصدقين, يستصرخون بأفعالهم من يظنوا أنهم( متربصين بهم) أن أفصحوا لنا عما تنتوون,أصحيح أنكم بحق مستأنسون ؟ أصحيح أن لن تزجوا بنا في غياهب السجون ؟ أصحيح أنكم راحلون وأنكم لا تلتفون من حولنا بمكائد الوعود ومعسول الكلام والرياحين ؟ ألم أقل لك أنهم لا يصدقون ما فعلت أياديهم ولا يدركون ؟ أخي, إن أهم ما لا يدركه( ثوريو اليوم) هو أن أطماع( البعض) منهم هي أسباب وحشتهم في( الميادين); وأن هذه الأطماع تعميهم عن شمس الحقيقة ساطعة: فلولا(جموع الناس) لكان هؤلاء هدفا سائغا( للآكلين); وأن الثورات ملك للشعوب وليست حكرا أو( إرثا) لبعض الطامعين, كلما ألم بهم الخوف استنجدوا بالناس وكل( الملتحين),وحين الطمأنينة يستأسدون.. ولقد نسوا لو أنهم فرغوا من الناس جميعا, لاستداروا فأذاقوا بعضهم بعضا من ذات المعين; و لقد نسوا أن صبر الناس قد نفد, وأن الغلبة للناس دوما,ألا إن الغلبة للناس( أجمعين)!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم