تسلطت الأضواء بشدة علي بكين في الأيام الأخيرة بعدما استخدمت الصين, باعتبارها احد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي, حق الفيتو يوم4 فبراير الجاري للاعتراض علي مشروع القرار العربي الأوروبي, الذي يتبني دعوة الجامعة العربية لتنحي الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة. حيث يثير الفيتو الصيني الكثير من علامات الدهشة والاستغراب لدي كثير من المتابعين للعلاقات الصينية العربية لأنه يشير, وبوضوح, إلي حدوث تطور نوعي مهم ليس فقط في أسلوب تعامل الصين مع منطقة الشرق الأوسط الغنية بموارد الطاقة الضرورية للمحافظة علي نموها الاقتصادي المتسارع, وإنما أيضا في نظرة بكين إلي دورها الدبلوماسي والسياسي علي الساحة العالمية. فالصين, التي تعد من اقل الأعضاء الدائمين استخداما لحق الفيتو,( استعملته13 مرة خلال41 عاما) استخدمت هذا الحق مرتين, مع روسيا, خلال أربعة أشهر فقط لمنع مجلس الأمن من التدخل في الشأن السوري. العجيب في الأمر أن الصين كانت تستطيع محاباة معظم الدول العربية والغربية عن طريق الاكتفاء بالامتناع عن التصويت- كما فعلت سابقا حيال القرار الخاص بالأزمة الليبية خصوصا أنها كانت تعلم سلفا أن روسيا سوف تستخدم حق الفيتو لإجهاض مشروع التدخل الدولي ضد نظام الرئيس الأسد. ولكن بكين قررت أن تدلي بدلوها وتعترض علانية, رغم ما استتبعه ذلك من انتقادات خليجية وأمريكية شديدة, ودعوات متعددة لمقاطعة المنتجات الصينية في عدد من الدول العربية المتعاطفة مع الثورة السورية. مبررات الفيتو الصيني بكين دافعت عن موقفها تجاه الشأن السوري قائلة إن التدخل الغربي في ليبيا وأفغانستان والعراق كشف عن مخاطر تغيير النظام بالقوة, مشيرة إلي أن الحرب في العراق وأفغانستان أدت إلي وقوع كوارث إنسانية مؤلمة, تتمثل في استمرار معاناة مواطني البلدين حتي يومنا هذا من الهجمات والتفجيرات شبه اليومية رغم مرور عشرة أعوام من تغيير النظام بالقوة. ويضيف الصينيون بالقول إن استخدامهم لحق الفيتو, مع روسيا, لا يعني تأييدا لنظام الرئيس بشار الأسد, وإنما هو محاولة للتوصل إلي حل وسط بين النظام الحاكم وقوي المعارضة لتجنيب الشعب السوري العنف ولهيب الحرب الأهلية. فمواجهة العنف بالعنف ليست طريقة ناجعة لحل الأزمة, من وجهة نظر الصينيين, بل علي العكس ستؤدي إلي تعقيد الوضع. وفي هذا السياق, يؤكد السفير وو سي كه, مبعوث الصين الخاص للشرق الأوسط, أن الفيتو الصيني ضد التدخل الدولي في الشأن السوري يتفق مع مبادئ ميثاق الأممالمتحدة, الخاصة باحترام سيادة الدول, كما يعزز أيضا ضرورة احترام حق الشعب السوري في حل الأزمة بنفسه من خلال الحوار السياسي. مخزي أم مسئول؟ الفيتو الصيني فجر ردود فعل متباينة لدي كثير من الأوساط الدبلوماسية والسياسية. فقد ظهر فريق يري أنصاره أن هذا الفيتو مخزي لتحديه إرادة المجتمع الدولي, متمثلة في إجماع أعضاء مجلس الأمن( ما عدا روسيا) علي ضرورة إدانة النظام الدكتاتوري والقمعي للرئيس بشار الأسد. ومن ثم, فإن الموقف الصيني يمثل مهزلة.. وصدمة مروعة.. بل وجريمة باعتباره مشاركة من جانب الصينيين( والروس) في قتل الشعب السوري. وفي مواجهة ذلك الرأي, ظهر فريق آخر يؤكد أنصاره علي أن الفيتو الصيني يعتبر موقفا مسئولا ويحقق مصلحة الشعب السوري في ظل حقيقة أن الوضع الحالي في سوريا معقد للغاية. وبالتالي, سيؤدي دعم القوي الخارجية لقوي المعارضة الداخلية علي حساب النظام الحاكم في سوريا في النهاية إلي تقسيم سوريا ونشر بذور جديدة لكارثة في منطقة الشرق الأوسط, خاصة إذا ما تحول الصراع داخل سوريا إلي حرب إقليمية تشارك فيها إيران وحزب الله وغيرها من الجماعات المسلحة التي تعارض الوجود العسكري الغربي في الدول الإسلامية. تفسيرات متنوعة بغض النظر علي المواقف المعارضة أو المؤيدة للفيتو الصيني, يري العديد من المراقبين أن هذا الفيتو يمكن تفسيره في ضوء العديد من الاعتبارات المهمة, في مقدمتها ما يلي: أولا: أن صانعي السياسة الصينية لا يبدون حماسا كبيرا للثورات في دول الربيع العربي. ولعل ذلك يتضح من النشاط الكبير لوسائل الإعلام الصينية في تصوير الأحداث التي وقعت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا بصورة سلبية للغاية منذ بداية ثورات الربيع العربي. وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بالمخاوف الصينية من وقوع ثورات مماثلة علي أراضيهم من ناحية, فضلا عن المخاوف المرتبطة بفتح الباب أمام التدخل الخارجي في الصين مستقبلا في ظل اتهامات بعض الحكومات الغربية وكثير من جماعات حقوق الإنسان لقادة الصين بقمع المعارضين في الداخل من ناحية أخري. ومن جهة ثانية, لا يخفي كثير من الصينيين, الذين التقي بهم كاتب هذه السطور, قلقهم من أن تؤدي العواصف الديمقراطية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط إلي عرقلة نمو النفوذ الصيني في المنطقة, وخاصة النفوذ الاقتصادي. فتبدل الأوضاع القائمة قد يطيح بالصلات الوثيقة التي حاول الصينيون إقامتها مع قادة الدول العربية, طوال السنوات الماضية, من أجل تأمين مصالحهم التجارية عموما والبترولية خصوصا. وفي ضوء هذه الاعتبارات, يؤكد الصينيون دوما أنه من الأفضل للشعوب العربية تحقيق التقدم السياسي والاقتصادي في ظل الاستقرار, وبهدوء دون أحداث فوضي وعنف وغياب للمسئولية كما هو حاصل الآن في بعض الدول العربية. كما يؤكدون أيضا إمكانية نجاح الحوار البناء بين كافة القوي السياسية داخل الدول العربية في التوصل إلي نتائج ايجابية تريح كافة الأطراف وبأقل حجم من الخسائر. ثانيا: يمكن تفسير الفيتو الصيني أيضا بتنامي عدم الثقة بين القيادة الصينية وإدارة الرئيس الأمريكي باراك اوباما منذ صفقة الأسلحة الأمريكية إلي تايوان في2010, والتي بلغت قيمتها أكثر من6.4 بليون دولار(37.12 بليون جنيه مصري تقريبا). وهي الصفقة التي صبت الزيت علي النار المشتعلة بين البلدين بخصوص العديد من الملفات الساخنة بين البلدين, وفي مقدمتها المناورات العسكرية المشتركة بين الولاياتالمتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بالقرب من الشواطئ الصينية, ومحاولة واشنطن إقامة سلسلة من الأحلاف الأمنية ل تطويق واحتواء الصين, خاصة مع الهند واستراليا, ومعارضة الصين للموقف الأمريكي المتشدد من كوريا الشمالية وإيران بسبب برامجهما النووية والصاروخية. وفي ضوء ذلك, يري عدد من المراقبين أن القيادة الصينية ربما دعمت الموقف الروسي من الأزمة السورية رغبة في الاحتشاد مع موسكو في مواجهة محاولات الاحتواء الأمريكي من جهة, والحصول علي دعم الروس في مجلس الأمن بشأن القضايا المتعلقة بدول تعتبرها بكين حلفاء استراتيجيين لها مثل كوريا الشمالية وإيران والسودان وميانمار من جهة أخري. ثالثا: أن صانعي السياسة الصينية قد يرون أيضا أن تعطيل الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط, خاصة فيما يتعلق بسوريا وإيران, في مصلحتهم, لتأمين تدفق البترول من منطقة الشرق الأوسط عموما, ومن إيران خصوصا. فالصين تعتبر حاليا المشتري الأول للبترول الإيراني(21 في المائة من الصادرات الإيرانية ذهبت إلي بكين في العام الماضي), كما يوجد للصينيين استثمارات هائلة في قطاع الطاقة الإيراني وعقود طويلة الأجل لشراء الغاز الطبيعي, ومن ثم, فهم علي الأرجح لا يميلوا إلي تحقق الرؤي الخليجية والغربية الرامية إلي خنق النظام الحالي في طهران عن طريق الإطاحة بحكم عائلة الأسد في دمشق, وجعل النظام السوري في أيادي سنية. بروز لاعب جديد بالطبع, لسنا بصدد الدفاع عن الفيتو الصيني الأخير فيما يتعلق بالوضع السوري. بالعكس, نري أن استخدامه في ظل ما يحدث في سوريا ينطوي علي قدر كبير جدا من الاستخفاف بالدماء التي تسيل في سوريا. ولكننا نطرح القضية من زاوية أخري مهمة, تتمثل في بوادر بروز لاعب جديد في منطقة الشرق الأوسط. وهو اللاعب الصيني. فالمصالح الصينية المتنامية في الشرق الأوسط, خاصة فيما يتعلق بالبترول والغاز الطبيعي, ورغبتها في لعب دور دبلوماسي وسياسي عالمي يتناسب مع تنامي قدراتها الاقتصادية والعسكرية في الآونة الأخيرة يبدو أنه سينقل بكين من موقف المتفرج علي أحداث الشرق الأوسط الساخنة إلي موقف أكثر نشاطا وفاعلية بالقدر الكافي لترجيح كفة علي أخري عند الحاجة, كما حدث في الأزمة السورية. وهنا يثور التساؤل التالي: هل سيكون من صالح الشعوب العربية وجود اللاعب الصيني في الملعب الشرق أوسطي لإقامة نظام أكثر عدلا وحرية وازدهارا؟ أم أن المشاركة الصينية ستؤدي إلي صب الزيت علي منطقة مشتعلة بالفعل؟