أنا واحد من كثيرين يعتقدون أن المسئولية عما يحدث من مآس منذ غزو العراق فى سنة 2003، تقع فى المقام الأول على الولاياتالمتحدةالأمريكية. لقد تتابعت الكوارث على العراق خلال الأحد عشر عاما الماضية من قتل وتدمير وتشريد وتفكيك وتخريب لبعض من أجمل آثار الحضارة العربية والإسلامية، وأعزها علينا، سواء على أيدى الجيوش الغربية الغازية، أو من يسمون الإرهابين أو التكفيريين، انتهاء بقوات ما يسمى ب «داعش» أو الدولة الإسلامية فى العراق والشام مازال مسلسل الأحداث الدامية، ولا تزال ردود الفعل على هذه المآسي، أضعف بكثير مما تستحقه، سواء فى داخل المنطقة العربية أو خارجها. وبصرف النظر عن الدوافع، والعوامل السياسية التى تكمن وراء هذه الأحداث، لابد أن يتطرق الذهن إلى مغزاها الحضاري، وذلك إذا نظر إليها على أنها ممارسات وحشية ترتكبها أو على الأقل تسكت عنها دول جرت العادة على اعتبارها ممثلة لحضارة رائعة، هى الحضارة الغربية، ضد دول ينتمى سكانها إلى سلالة حضارة مغايرة، هى الحضارة العربية أو الإسلامية، ويرفع مثقفوها ودعاة الاصلاح فيها منذ أكثر من قرن من الزمان، شعارات تدعو أهلها إلى الأخذ بأسباب الحضارة الغربية والسير على خطاها. يسأل المرء نفسه كيف يمكن التوفيق بين ما تنسبه هذه الحضارة لنفسها، وما ينسبه غيرها أليها، من مبادئ سامية، واعتبارها ممثلة لأعلى «وأفضل» مرحلة من مراحل التطور «أو التقدم» الانساني، وبين ما يدأب أهل هذه الحضارة على ارتكابه من أعمال شريرة تترتب عليها تضحيات جسيمة بالارواح، وبمنتجات هذه الحضارة نفسها، والحضارات السابقة. نحن نعرف ما أدت إليه الحربان العالميتان فى القرن العشرين، وفى فترة لا تزيد على ثلاثين عاما من فقد عشرات الملايين حياتهم، أضيف إليهم ملايين آخرون فى حروب أصغر فى مناطق مختلفة من العالم، ولكن مدفوعة بأطراف ينتسبون لنفس هذه الحضارة. كانت هذه المفارقات وأمثالها هى ما دعا الزعيم الهندى غاندى إلى الإجابة بتلك العبارة الساخرة عندما سأله أحد الصحفيين الانجليز عن رأيه فى الحضارة الغربية «إنها فكرة طيبة جدا»، avery good idea يقصد أن ما تدعو إليه هذه الحضارة من أفكار ومبادئ لا بأس به بالمرة ولكن ليته يتحقق! لابد أن يصاب الواحد منا بالحيرة عندما يشاهد الفرق بين نوعين من التصرفات. تصرفات الأوروبيين والأمريكيين فى حياتهم اليومية العادية وفى علاقاتهم الشخصية والعائلية، وبين تصرفات حكوماتهم ومؤسساتهم ووسائل إعلامهم،بل وتصرفات نفس الأفراد عندما يمثلون هذه الحكومات والمؤسسات إزاء غيرهم من الشعوب عندما تكون لديهم مصالح اقتصادية أو سياسية تتعارض مع مصالح هذه الشعوب، إنك تشاهد رجلا مثل جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية، قبله السيدة هيلارى كلينتون، الوزيرة السابقة، وهما يتكلمان ويتصرفان بمنتهى الأدب تهذيب فى معاملتهما لغيرهما من الناس (سواء كانوا من شعبهم أو من شعوب أخري)، ولكنك تعرف فى الوقت نفسه أن هذين الشخصين، ومن كان فى مثل موقعهما، يؤيدان أعمالا غاية فى القسوة والوحشية ضد شعوب أخرى إذا تطلب ذلك تحقيق أهداف السياسة الأمريكية، كيف يتفق هذا التحضر الظاهرى مع هذه الدرجة من الظلم ومنافاة أبسط الاعتبارات الانسانية؟ اثار هذا التساؤل فى ذهنى سؤالا آخر قديما عن الفرق بين الحضارة والثقافة، إن كلمة الثقافة culture بالمعنى الذى يستخدمها به عالم الإنثروبولوجيا، تعنى مجموعة السمات التى تميز أمة «أو مجموعة البشرية» عن غيرها، كما يظهر فى سلوك أفرادها اليومي، وعاداتهم، وما يؤمنون به من قيم اجتماعية وأخلاقية بهذا المعنى «الذى يختلف عن المعنى الأكثر شيوعا ويشير إلى الإنتاج الفكرى والفنى بمختلف أنواعه» يمكن الحديث عن فروق بين ثقافة الفرنسى أو الإيطالى «أو حتى الأوروبي» وبين ثقافة المصرى «أو العربي» أو الهندى أو الصيني، فكل من هؤلاء له ما يميزه من حيث أنماط السلوك والعادات والقيم التى يؤمن بها. أما كلمة «الحضارة» فتعنى شيئا ذا صلة بمعنى الثقافة، ولكنه يختلف عنه فى أن إطلاق وصف التحضر على ثقافة ما ينطوى على إصدار حكم قيمي، أى حكم بأنها أفضل أو أرقي، بعبارة أخري، إنه من الممكن وصف ثقافة أمة ما دون أن يتضمن هذا الوصف أى حكم بالمدح أو الذم، بالرضا أو عدمه، ولكن وصف أمة ما بالتحضر، سواء بالمقارنة بأمة أخري، أو بحالة نفس الأمة فى زمن سابق، ينطوى فى العادة على أنها أحرزت تقدما، أو تغيرت إلى الأفضل. ولكن يجب أن نلاحظ أيضا أن سير الأمة فى مضمار الحضارة لابد أن يجرى فى إطار ثقافة ما، التحضر لا يحدث من فراغ، بل هو تطور لسمات الأمة «أى لثقافتها» من حال إلى حال، ومن ثم فالحضارة الغربية الحديثة مثلا «التى يمكن اعتبار أنها بدأت مع بداية العصر المسمى بعصر النهضة فى القرن الخامس عشر»، كانت تنطوى على ما اعتبره أهلها «وكثيرون غيرهم» تطويرا إلى الأفضل والأرقى لأنماط السلوك والعادات والقيم التى كانت سائدة قبل هذا العصر «أى خلال العصور الوسطي» يترتب على ذلك بالضرورة أن من الممكن جدا أن تحرز الأمة تقدما «أى تغيرا إلى الأفضل» فى بعض عناصر ثقافتها، دون أن تتخلى تخليا تاما عن عناصر أخري، أقل رقيا، فى هذه الثقافة، بل لابد أن نلاحظ أيضا أن هذا «التقدم» الذى تحرزه الأمة فى مضمار الحضارة، يكون فى الغالب مجرد تطوير لعناصر كانت موجودة أصلا فى ثقافة هذه الأمة، وليس إحلالا لثقافة جديدة محل القديمة قد تبدو مثلا سلعة ما جديدة تماما، ولكنها فى الواقع تلبى عادات متضمنة فى الثقافة التى كانت سائدة قبلها انظر إلى التليفزيون مثلا، الذى قد يبدو جهازا محايدا من الناحية التكنولوجية، وأن من الممكن استخدامه لنقل أى نوع من الثقافة، ولكنه فى الحقيقة يخدم عادة أغراضا كانت تحققها سلع أخرى من قبل، وتستجيب لعادات وميول هذه الثقافة، إن من السهل التدليل على ذلك بأمثلة من التطور التكنولوجي، ولكن حتى التقدم العلمى نفسه يمكن أن يتضمن أمثلة على هذا أيضا، أى على خضوعه للثقافة التى ظهر فيها. إن التحضر إذن لا يؤدى بالضرورة إلى إحلال ثقافة محل أخرى بل قد يقتصر أثره على تطوير الثقافة الموجودة، وهو تطوير يعتبره أصحابه تغيرا إلى الأفضل «وهذا هو أيضا رأى الأمم الأخرى المفتونة بهذه التغيرات»، ولكنه قد لا يكون فى الحقيقة أكثر من أدوات جديدة لتحقيق نفس الأهداف القديمة. ذكرنى هذا بقصة طريفة حدثت بالفعل فى عائلتى فى صورة حوار بين أبى وأكبر إخوتى رحمهما الله كان أخى قد عاد إلى مصر بعد إقامة طويلة فى أوروبا، ولاحظ أبى بعد بضعة أيام من عودته أنه يجلس صامتا ويخالطه شئ من الحزن فسأله أبى عما يحزنه فقال: «إن الناس هنا، (أى فى مصر) يأكل بعضهم البعض»، فأجابه أبي:«وفى أوروبا أيضا، وإن كانوا هناك يفعلونه بالشوكة والسكين»!. عدت بعد هذا إلى التفكير فيما فعله أصحاب الحضارة الغربيةبالعراق، هؤلاء لا يطبقون قطعا ما يرفعونه من شعارات الحضارة، إذ أن ما يفعلونه يتعارض تعارضا صارخا مع مقتضيات هذه الشعارات، فهل هم إذن يمارسون عادات وميولا متأصلة فيهم، وتكون جزءا أصيلا من »ثقافتهم« التى لم يغادروها، ولم يطوروها إلا على نحو سطحى للغاية، أم أن هذه الميول والدوافع كامنة للأسف فينا جميعا، نحن بنى آدم، مهما اختلفت ثقافاتنا؟ لمزيد من مقالات د. جلال أمين