لدينا فى مصر وفرةٌ من المسئولين القادرين على إفساد كل فكرةٍ نبيلةٍ جهلاً أو نفاقاً أو عمداً .. أتحدث عن أولئك المسئولين الحكوميين الذين دخلوا على الخط فى (صندوق تحيا مصر)، حاملين معهم نفس الممارسات التى تربّوا عليها على مدى عدة عقود، وظننا أن الثورة قضت عليها. قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ). وقيل فى تفسير الحديث إنه لا يجوز أخذُ مالٍ من إنسانٍ بإحراجه، حتى وإن بدا ظاهرياً أنه راضٍ ومتبرعٌ .. وقيل فى الأثر (ما أُخذ بسيف الحياء فهو باطل). فكرة الصندوق واضحةٌ وبسيطة .. طَرَحها عبد الفتاح السيسى وهو لم يزل مرشحاً .. وملخصها أن الوضع العام فى مصر بالغُ السوء .. ولتحقيق قفزةٍ طموحةٍ فى جميع المجالات فإن مصر فى حاجةٍ إلى تمويلٍ كبير .. جزءٌ من هذا التمويل من الأشقاء العرب .. وجزءٌ بحزمةٍ من الإجراءات التقشفية .. وبقى جزءٌ فى حدود مائة مليار جنيه، استنهض الرجل هِمَم المصريين لتمويله. ولما أصبح رئيساً، بدأ تطبيق فكرته بدايةً صحيحةً، إذ بدأ بنفسه وأعلن عن تبرعه بنصف راتبه ونصف ثروته .. ثم ذهب بنفسه وأودع مبلغاً فى بنكٍ حكومى (وليس بنكاً خاصاً أو أجنبياً كما فعل غيره) .. وقبل مرور 48 ساعة على هذه البداية الصحيحة، كان معظم الوزراء والمحافظين (يُعلنون) عن تبرعهم بنصف رواتبهم للصندوق بطريقةٍ دعائيةٍ سئمناها ولها مردودٌ سلبىٌ عند كثيرٍ من المصريين .. ولكن كثيرين قالوا لا ضيْر، فالتبرع فى النهاية من مالهم الخاص وليس من جيب أحد والله أعلم بنواياهم. ثم إذا بالبعض يعلنون عن تبرع مؤسساتهم (جامعات/ شركات/ بنوك/..) من ميزانياتها .. وهو أمرٌ لا قيمة له .. فهو ليس تبرعاً وإنما من الخزانة العامة وإليها. ثم وصلنا فى الأيام الأخيرة إلى التطور الطبيعى والكارثى لما سبق، حيث تسابق بعض المسئولين على إجبار مرؤسيهم على التبرع الجماعى للصندوق، فقرأنا عن تبرع العاملين بالهيئة الفلانية وغيرها بأجر يومٍ أو نسبةٍ من الأساسى، وغير ذلك من التصرفات التى تقضى على نُبل الفكرة تماماً وتكاد تدخل فى باب المؤامرة على الفكرة وصاحبها. أساس التبرع هو الاختيار لا الجبر .. أعرف بالطبع كثيرين ممن تبرعوا للصندوق، ولم يرغمهم أحدٌ ولم يُرغموا أحداً .. وبأمثالهم تحلّ البركة. هذا عن المسئولين .. أما عن رجال الأعمال فهم كأى فئةٍ فى المجتمع، منهم الشرفاء ومنهم غير ذلك .. لكننى لا أتفق بالمرة مع طريقة تعامل البعض معهم فيما يخص التبرع للصندوق .. الطريقة بدا فيها نوعٌ من الإجبار أو سيف الحياء مع البعض، وهو ما يتناقض مع (طِيب النفس) الذى اشترطه الحديث الشريف .. ولعل بعضهم كان يُفضّل التبرع سراً ولكن الإعلام أحرجه .. بل إن بعض وسائل الإعلام بدأت حملاتِ تجريسٍ لمن لم يتبرعوا .. قد يكون بعضهم يستحق التجريس فعلاً، ولكن لأسبابٍ أخرى غير عدم التبرع .. أعرف أن كثيرين سيردّون بأن من رجال الأعمال من راكموا ثرواتهم من مال الشعب، ومن ثمّ فتبرُعهم واجبٌ .. ورأيى أن هذا منطقٌ فاسدٌ .. فالدولة لا تأخذ حقوقها لدى الفاسدين بالتبرع وإنما بالقانون .. وفى المقابل فلا يجوز أن ينال رجلُ أعمالٍ ثمناً لتبرعه. إن مبدأ التبرع بالمال فى حد ذاته قيمةٌ عليا .. فإذا كان هذا التبرع للوطن فإنه يصل إلى مرتبة الجهاد (فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) .. وفكرة التبرع قديمةٌ فى وعى المصريين ووجدانهم .. وفى تاريخنا نماذج بلا حصرٍ لمبادرات المصريين فى هذا المجال .. والأساس فيها أنها تطوعيةٌ لا يطلب فاعلوها جزاءً ولا شكوراً .. ومن ثمّ فلا لوم ولا إحراج ولا ابتزاز لمن لم يتبرع. فى هذا السياق أُقيمت جامعة القاهرة .. تبرعت الأميرة فاطمة بنت إسماعيل بالأرض، غيرَ باحثةٍ عن منصبٍ أو مقابلٍ، فنالت فضل التبرع عند الله وفى قلوب المصريين .. وتقاعَس فى المقابل عشرات الأمراء ففاتهم هذا الفضل ولكن لم يبتزهم أحد. ألزمت أم كلثوم نفسها بالتبرع بدخل حفلاتها لدعم المجهود الحربى، فحفرتْ مكانَها فى القلوب وفى تاريخنا الوطنى .. ولم نسمع أن أحداً لامَ الفنانين الآخرين لأنهم لم يفعلوا. وعقب ثورة يناير ظهرت مقترحاتٌ كثيرة تمحورت كلها حول فكرة التبرع ولم يُكتب لها النجاح الكبير المأمول .. إلى أن وصلنا لصندوق (تحيا مصر) الذى يجب علينا أن نحافظ على طهارته بعيداً عن هذه الملوثات .. ولا داعى للاستعجال .. ليس من الضرورى امتلاء الصندوق بالمائة مليار جنيه قبل البداية .. لنبدأ بالمُتاح ولو كان قليلاً .. نبدأ به تنفيذ مشروعاتٍ محددةٍ، يلمس المصريون كفاءة إدارتها ويشاهدون أثراً لتبرعاتهم .. عندها سيزداد العطاء وينمو الصندوق ويكبر. إن قرط الحاجة زينب الذى تبرعت به عن طِيبِ نفسٍ أكثرُ بركةً من ملايين الجنيهات التى يُجبر الموظفون على سدادها للصندوق، أو مليارات يدفعها رجلُ أعمالٍ حرَجاً أو ابتزازاً أو طمعاً .. ولنطمئن .. فلن يتوقف عطاء المصريين أبداً طالما عن (طِيب نفس) .. تلك هى كلمة السر. لمزيد من مقالات م يحيى حسين عبد الهادى