ليس من شك في أن الفنان جمال سليمان قد أخطأ التقدير، عندما وافق على تجسيد شخصية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في مسلسل «صديق العمر» دون يقرأ السيناريو جيدا وهو ما أدخله في براثن مقامرة كبرى وليست مغامرة بحسب حسن النوايا التي اعتمد عليها، وبالتالي جاء بأثر سلبي لا يقوى على احتماله كفنان قدم روائع درامية مصرية وسورية وعربية تشهد له بالكفاءة ورقي الإحساس وبراعة الأداء، خاصة أن بعضا من معاصري الفترة الناصرية، وكذا ابن الزعيم نفسه» المهندس عبد الحكيم» قد صبوا جم غضبهم على «سليمان» وبقسوة، وكأنه وحده يتحمل كل خطايا المسلسل، كما أن نفس الموقف استدعى النقاد أيضا إلى سن أقلامهم التي ذهبت تنهش بلا رحمة في جسد البطل الذي أقر بأن الوقت لم يسعفه في هضم الحوارات الكثيرة لإتقاق اللهجة المصرية، ومازاد الأمر تعقيدا أن غالبية هؤلاء قد غضوا الطرف تماما عن السيناريو المهلهل، ومخرجه الذي يفتقد للثقافة والوعي والإحساس بحركة التاريخ، وقرر أن يدخل في شرك من النوع الأصعب دراميا، مستندا على خبرته كمخرج فيديو كليب. ظني أن صناع العمل لم يقصدوا بشكل عمدي «تشويه صورة الزعيم جمال عبد الناصر» كما تساءل نجله «عبد الحكيم»، لأن تلك الصورة ظلت وستظل راسخة في وجدان أمة بكاملة، ومنهم جمال سليمان نفسه، الذي أخفق في اختيار الوقت المناسب، ولم يعتمد على دراسة متأنية لعرض سيرة «المشير عامر» التي يكتنفها كثير من الغموض وحالات الالتباس، عبر سيناريو هزيل اعتمد على مذكرات «برلتني عبد الحميد» دون تدقيقه تاريخيا بالشكل الذي يليق بحركة الضباط الأحرار التي عبرت بمصر من الحكم الاستبدادي إلى حكم الشعب في 23 يوليو 1952، وقدم المسلسل على عجل ليلحق بركب الدراما الرمضانية. أغلب الظن أن الأمر كان متوقعا، فلقد بدأ طوفان التكهنات قبل شهر رمضان بكثير، عندما أعلن أن المسلسل سيكون ضمن كعكة رمضان 2014، حيث كان السؤال هو: هل ينجح السوري جمال سليمان في تجسيد شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر؟، ومن ثم بدأت الانتقادات مبكرا، وظلت تكبر مثل كرة الثلج، خاصة مع تصريحات « عثمان أبو لبن» المستفزة حول «أن البعض يتجاهل جوهر المسلسل ويكتفي بالنظر للقشور، وأن الغرض من العمل هو سرد للتاريخ وكشفه لمن لا يعلمه»، وهذه شهادة حق يراد بها باطل، فالعمل في واقع الأمر يفتقد للسرد المنطقى، ولم يكشف تاريخا لانعلمه، بل إن قصور رؤية السيناريو وفقدان المخرج لأبسط قواعد اللعبة الدرامية هو من اكتفي بالنظر إلى القشور ولم يقترب من جوهر العمل كما يتشدق بذلك. على أية حال أرى أن «سليمان» بذل مجهودا كبيرا للغاية في محاولة تجسيد شخصية عبد الناصر، ولكن الأمر في النهاية خرج عن إرادته، والدليل على ذلك أنه هو نفسه من أدخل البهجة والسرور على الجمهور المصري من قبل مع أولى أعماله الدرامية المصرية «حدائق الشيطان» ليحتل عرش الأداء الجيد وقلوب عشاق فنه خلال فترة وجيزة، وهو ما أكده بعد ذلك في مسلسلات:»أفراح إبليس،أولاد الليل، قصة حب، الشوارع الخلفية، نقطة ضعف، سيدنا السيد «، ولعل تقديمه لشخصية ضابط الجيش ببراعة تجمع بين النعومة والانضباط العسكري في «الشوارع الخلفية، يشهد على تشربه الكامل للحياة المصرية، حتى لايزايد أحد على اتقانه لهجتها. ومما هو جدير بالذكر لصاحب الأداء الرفيع «جمال سليمان» واحدة من أيقونات الدراما العربية وهى «ذاكرة الجسد»، التي امتلك فيها منظومة تعبيرية تتمثل في الجسد والخيال والذاكرة الانفعالية، والأفكار والصدق والإحساس بتعبيرات من الحزن والفرح والحب والكراهية، فضلا عن دقة استخدامه لإيماءات وحركات الوجه ولغة العيون والشفتين والرأس و»يده الواحدة» التى بقيت لبطل المسلسل «خالد توبال» من آثار الحرب، ليقدم تجربة ثرية مصحوبة بايقاعات خاصة تؤكد براعته كممثل محترف. كما لاينسى لسليمان في تجاربه الدرامية الناضجة أدواره المشهودة في: «صلاح الدين الأيوبي،صقر قريش، أهل الراية، ذكريات الزمن القادم، ملوك الطوائف» التغريبة الفلسطينية، وكلها علامات بارزة - شاء من شاء وأبى من أبي- وأخيرا: يبقى لكل جواد كبوة، خاصة في ظروف أحيطت بفنان جريح فى وطنه، متألم بفقدان «الأم والأب» في أسبوع واحد منذ أشهر قليلة، ناهيك عن رحلة حياة مليئة بالشقاء والتعب والتفاعل بإيجابية مع قضايا الإنسانية المعذبة.