فلسطين ليست حماس، هى قضية لها تاريخ، وأصلاً لا تخص فلسطين والفلسطينيين وحدهم. حيث ليس «الحلم التوراتي» هو الذى فرض نشوء الدولة الصهيونية كحلّ لمشكلة يهود مشردين. ولا لأن فلسطين هى «أرض الميعاد» كما يعمم الخطاب الصهيوني. كل هذه «الإنسانية» لا يملكها الاستعمار، ولاالإمبريالية، وهى خارج كل اهتمام إلا من زاوية تشكيل أسطورة تبرر تحقيق مشروع يخدم القوى الإمبريالية ذاتها. هذا ما يجب أن يكون فى خلفية كل موقف مما يتعرض له قطاع غزة من عنف وحشى صهيوني، وما يبديه الشعب هناك من مقاومة رغم غياب كل تكافؤ لأسس الصراع أصلاً. فالقضية تبقى قضية بغض النظر عن من إدعى تمثيلها أو الدفاع عنها، وبالتالى العدوان عدوان، والعدو عدو. حيث إن المواقف لا تتحدد ولا يجب أن تتحدد انطلاقاً من الاختلاف أو الاتفاق مع هذا التنظيم أو ذاك، لأن ذلك يناقض المنطق الذى يفترض تحديد القضية قبل تحديد الخلافات والاتفاقات. وفلسطين قضية نشأت كرد استعمارى على مشروع محمد على باشا، بعد هزيمته حين زحفت أوروبا لكسر طموحه، وفرض استسلامه. حيث طرح بالمرستون وزير خارجية بريطانيا، سنة 1840، مشروع إقامة دولة يهودية فى فلسطين، قبل أن يقوم أى «يهودي» بطرحها، ومن ثم حرّضت بريطانيا قطاعا من اليهود الأوروبيين لحمل المشروع على أساس انه حل لمشكلة اليهود الذين كانوا يعانون من اضطهاد فى أوروبا. وإذا كانت فلسطين هى المستقر الذى سيعانى شعبه التشريد والقتل، فإن الهدف لم يكن تحقيق حل «إنساني» لهؤلاء اليهود، ولا تحقيق أسطورة «أرض الميعاد» بل كان الهدف جلياً: إيجاد دولة حاجز، بعد أن كان طموح محمد على باشا فى التصنيع والتحديث قد فرض عليه التمدد شرقاً لإقامة «دولة عربية» كما أشار إبراهيم باشا. وهذا هو المسار الطبيعى لكل تطور برجوازي. والحاجز هنا لا يتعلق بالتمدد شرقاً فقط،لإجهاض طموح «إيجاد سوق» أو طموح الوحدة، بل هو حاجز أمام التطور الداخلي، التطور الذى يعنى التصنيع والحداثة. لهذا فإن فى التخلف القائم فى المنطقة «عنصر صهيوني» حيث عملت الدولة الصهيونية على مقاومة كل محاولة لتحقيق التطور والحداثة، وحروبها ضد العرب كانت تهدف إلى وقف الاندفاع الثورى الذى بدأ فى خمسينات القرن الماضي، والذى هدف إلى ذلك بالتحديد. فلسطين كانت فى ظل هذا المشروع الأرض التى يجب أن تقام عليها «القاعدة العسكرية» التى ستواجه المنطقة العربية كلها. ولقد عانى أهلها التشريد نتيجة ذلك. الخلاف هنا ليس على الأحقية فى الأرض، وهذا ما قامت عليه الأسطورة الصهيونية، بل إنها الأرض التى كانت فى موقع إستراتيجى يخدم المشروع الإمبريالي، الذى يريد الهيمنة على المنطقة، ويريد أداة عسكرية مساعدة تُزرع فيها. لهذا هى تموّل من قبل الدول الاستعمارية، لأن مقدرتها الاقتصادية أضعف من ان تحمل مشروعاً يقوم على بناء «مجتمع مدني» لكى يخفى معالم القاعدة العسكرية، ويقيم جيشاً مهمته مواجهة كل جيوش المنطقة. هذان أمران يحتاجان إلى وفرة مالية لا توفرها دولة صغيرة الحجم، وباقتصاد كان يبني، وفى كل الأحوال لا يستطيع مهما تطور أن يفى بتمويل كل ما يحتاجه جيش كبير ومتطور، وبناء مستوطنات وبنية تحتية تستوعب ملايين اليهود الذين استجلبوا. إنها مشروع ممول إمبريالياً بالتالي. كل ذلك يعنى أن دورها الرئيسى ليس السيطرة على فلسطين فقط لحل «المسألة اليهودية» بل أن دورها، وهى تؤسس قاعدتها فى فلسطين مواجهة كل الوطن العربي، ومواجهة كل طموح لتحقيق التطور والحداثة. هى فعل اجهاضى لكل طموح تقدمي، ولا يجب أن تُرى بغير ذلك. بالتالى فإن فلسطين ليست قضية خارجية لأى دولة عربية، بل هى قضية داخلية لكل دولة عربية، ودون رؤية ذلك سيبقى التخلف، ويبقى التفكك، وتبقى السيطرة الإمبريالية، ونهب الاقتصاد، وسيطرة فئات مافياوية، ويظل المجتمع مرتعاً لإنتاج الأصولية. ربما هذا الرابط هو الذى يعمّق الشعور بالارتباط بفلسطين من قبل الشعوب، حيث تبدو الدولة الصهيونية عبئاً على تطور المنطقة، وعلى تحقيق مطالب الشعوب ذاتها. وهذا حقيقى لأنها الحاجز الذى يمنع التطور خدمة للسيطرة الإمبريالية والنهب الإمبريالي، وفرض استمرار التخلف والفقر والتهميش، عبر فئات مسيطرة داخلية، هى رأسمالية محاسيب. وهو الأمر الذى يجعل وضع المنطقة العربية موحداً، فليس من الممكن فصل مسار بلد عن مجمل المسار العام فى الوطن العربي. وكل الميول التى انتشرت للتحلل من القضية الفلسطينية، ومن الترابط العربى أنتجت مجتمعات مفقرة ومهمشة،وفئات تحكم لكى تنهب وتساعد على نهب القوى الإمبريالية. ولم تؤدِ إلى الرفاه كما درج الخطاب حين جرى التحوّل نحو التفاهم مع الدولة الصهيونية. ليبدو أن الصراع معها مرتبط بتحقيق وضع أفضل للشعوب وليس العكس، لأن هذا الصراع هو جزء من عملية التطور التى تريدها الشعوب ما دامت هى حاجز لمنع التطور والحداثة خدمة للمشروع الإمبريالي. هذه هى القضية التى تحدد المواقف وليس الانزلاق إلى تحديد موقف على ضوء صراع مؤقت أو عابر، أو حتى أساسي. ولا يفرض ذلك لا التحالف مع حماس ولا التنسيق معها، بل يفرض الصراع ضد الدولة الصهيونية كعدو أساسى ليس من الممكن إلغاء الصراع معه، أو قبول دوره العدواني، وأصلاً قبول وجوده. وبهذا فإن أى «لعب» سياسى يكون خارج هذه المعادلة. لمزيد من مقالات سلامة كيلة