الصيام جنة للمسلم، فهو يربي النفس على العفة، وضبط اللسان، وعدم الانجرار وراء المثيرات المسببة للانفعال ليل نهار، وكذلك عدم الخوض في التوافه التي تُهدر الطاقة وتضيِّع الوقت وتذهب ببهجة النفس وبهائها. فأيها الصائم يا مَنْ عقدت العزم والنية على صوم الشهر الفضيل عليك أن تتوقف عن الانفعال الشديد الذي أحيانًا ما يسبب لك مشكلات مع المحيطين بك، سواء في دائرة الأسرة والأصدقاء أو في دائرة العمل، أخي الصائم، جعلنا الله وإياك من عتقاء رمضان، هوِّن عليك واصبر واستعن بالله فأنت في شهر الصبر، فالصوم نصف الصبر، فلتصبر ولتحتسب، آخذًا من رمضان درسًا أخلاقيًّا في كظم الغيظ وضبط النفس والتخلق بالأخلاق الحسنة، ومن هنا لا بد أن نوضح عدة أمور متعلقة بالصيام: أولاً: الهدف من الصيام: لقد بيّن الله -عز وجل- الهدف من الصوم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والتقوى في النهاية هي الالتزام بشرع الله تعالى عمومًا، وهي تفصيلاً الخوف من الجليل والرضى بالقليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل، كما عرفها سيدنا علي -رضي الله عنه-، وشريعتنا الغراء تحثنا على التخلق بالأخلاق الكريمة، فلا بد من ترك الغضب، وعدم السماح لأي شخص أن يجرنا إلى الاستفزاز؛ لأن الهدف من الصوم هو التمسك بالأخلاق الحسنة، والوصول إلى مرحلة ضبط النفس والتحكم فيها، وقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجنب ما يفسد صومنا من الأخلاق السيئة، فقال: "الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم"، والرفث من معانيه أن يتكلم الشخص بكلام بذيء سيئ فاحش، فعلى كل صائم ألا يقع في ذلك، وأن يتجنب الكذب، وكذلك الغيبة والنميمة، وقد حثَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- الصائمين على التمسك بالأخلاق الكريمة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم"، بمعنى أن الصائم إذا استفزه أحد عليه أن يقابل ذلك بالتسامح، فالصوم جنة لنا من الوقوع في الزلل، ومن لم يلتزم ذلك فقد ضيع صومه هباء وأفقده جوهره والهدف الأسمى منه وحقَّ فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". ولنتذكر دائمًا أن هدف الصوم الأسمى هو تقوى الله عز وجل، والذي يصوم ينبغي له أن يتحلى بالأخلاق الكريمة التي بُعث بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ثانيًا: الصوم نوعان: قد وضح لنا العلامة أبو حامد الغزالي -رحمه الله- أن الصوم نوعان: صوم العوام وصوم الخواص، أما صوم العوام فهو الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، وأما صوم الخواص فهو صيام الجوارح عن الحرام، كأن يصوم اللسان عن النطق بحرام، وأن تصوم العين عن رؤية الحرام، وأن تصوم الأذن عن سماع الحرام، وأن تصوم اليد أن تلمس حرامًا، وأن تصوم الرجل أن تسير إلى حرام... إلخ. ثالثًا: أخلاق المسلم الصائم: إن من صفات المسلم أنه ليس بالسباب ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء، هكذا يقول حبيبنا الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالسباب ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء". لا بد إذن أن نعي أن الصيام طهرة للسان كي يعتاد على إتيان الخير والنطق بالكلام الطيب، والصائم لا بد له أن يتحلى بالأخلاق الكريمة من حِلم وعفو وصفح وإعراض عن الجاهلين؛ فإن الصوم هو ما يحملنا على كل ذلك، لا بد لنا أن نعلم أن ديننا يدعو كل مسلم منا إلى التحلم في أموره والترفق في شتى أحواله، ولذا يقول المولى جل وعلا: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34-36]، هناك مواقف صعبة، قد تدفع بالإنسان إلى نزاع أو شجار أو قتال، ولكن بالحِلْم والرفق والسماحة والعفو وحسن الخلق، نخرج من تلك المواقف وصدق سيد البشر حيث قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، وقال: "من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه يأتي الله عز وجل به على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء"، فالمؤمن يسمع الأقوال السيئة لكنه يقابلها بعقل وطمأنينة وحلم، ولا تستفزه مثل هذه الأمور ولا تزعجه، ولنذكر قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان:63]، ومن صفات المتقين: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، و{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، فما أحوج الصائمين أن يكونوا كذلك. ولذا يقول النبي الكريم عن الصائم: "فإن أحد سابه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم"، فالامتناع عن الرد ليس لخوف أو ضعف ولكن تخلقًا وتقية وتنزها وسموًّا، وليكن لك في رسول الله أسوة حسنة فمن صفاته أنه كان لا تزيده شدةُ الجهل عليه إلا حِلمًا، ورحم الله من قال: يُخاطبني السفيه بكل قُبح *** فأكره أن أكون له مجيبًا يزيدُ سفاهةً فأزيد حِلْمًا *** كعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طيبًا فلترتقِ أخي الصائم آخذًا من رمضان درسًا أخلاقيًّا عظيمًا في كيفية ضبط النفس وملكها وعدم التهور والانسياق وراء الشيطان لحظة الغضب بالذات، ولتدرب نفسك على الصبر الذي هو أعظم درس من دروس الصيام. فإذا ما علاك الغضبُ وضعفت نفسك عن كظمه فقم فتوضأ وصلِّ لله ركعتين، أو اجلس لو كنتَ واقفًا أو قم لو كنتَ جالسًا أو غير مكان مجلسك، واستعن بالله ولا تعْجِزْ، اللهم اجعلنا من عتقاء رمضان وتقبل منا صيامه وقيامه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر