إذا أردنا أن نعرف ما الذى ربحته اللغة العربية فى مصر فلنتصفح كتاب الجبرتى «عجائب الآثار» لنرى ما كانت عليه اللغة فيما كتبه هو وما نقله عن غيره من كتاب عصره وشعرائه، ولنقرأ بعد ذلك ماتتاح لنا قراءته من شعر البارودى وشوقى وحافظ، ومن نثر محمد عبده وأحمد لطفى السيد وطه حسين والعقاد وهيكل والحكيم ونجيب محفوظ. سوف نرى فيما قرأنا مما لحقها كيف أصبحت العربية فيما لايزيد على نصف قرن من فهاهة فى التفكير وركاكة وسوقية فى التعبير، وكيف أصحت قادرة على أن تستوعب مانقله لها الطهطاوى وتلاميذه من علوم العصر وفنونه وفلسفاته، وأن تنتقل بعد ذلك من النقل إلى الخلق ومن الترجمة الى الإبداع فى أشكال جديدة لم تعرفها العربية ولم يعرفها العرب من قبل كالرواية والقصة والمسرحية الشعرية والنثرية، وفى لهجات جديدة فصيحة دون تقعر وأنيقة دون زخرفة نقرأها نحن فنرى أنفسنا فيها، ويقرأها غيرنا مترجمة للغاتهم فيروننا فيها ويرون أنفسهم أيضا، لأن الأدب المصرى حين أصبح تعبيرا صادقا عن النفس أصبح تعبيرا صادقا عن كل البشر. وإذا أردنا أن نعرف ما الذى خسرته اللغة العربية فى مصر خلال العقود الخمسة الماضية فلنترك شوقى وحافظ وطه حسين والحكيم لنتصفح مايصدر هذه الأيام عن دور النشر من كتب وصحف، ولننصت لما تذيعه القنوات الفضائية من أحاديث وأخبار وأغان، وسوف نرى أن ما ربحناه فى أقل من نصف قرن خسرنا أضعافه فى أقل من نصف قرن. فى عصر الجبرتى كان المصريون يقدسون الفصحي. لكنهم كانوا عاجزين عن امتلاكها. لأن حكامهم الأتراك والمماليك كانوا يتكلمون لغات أخري. ولأن معرفتها لم تكن متاحة إلا فى الأزهر الذى لم يكن فى وسعه أن يعلم كل المصريين لغتهم ثم إن علماء الأزهر اكتفوا من الفصحى بوظيفتها الدينية التى اقتصرت على أدائها وقطعت صلتها أو كادت بالواقع اليومى الحي. من هنا كانت التركية هى لغة الحكم، والعبرية لغة المال، وكانت الدارجة هى لغة الاتصال. أما الفصحى فلم يبق لها إلا خطبة الجمعة! والوضع الآن مختلف من جميع النواحي. فالعربية الفصحى على الأقل نظريا هى لغة الحكومة والإدارة والتعليم والتأليف والقضاء والإعلام والعبادة. والمدارس منتشرة فى المدن والقري، والجامعات. والتعليم فى كل مراحله بالمجان. لكن الفصحى تتراجع يوما بعد يوم، وتفقد ما كان لها من مكانة واحترام، وتفسد ليس فقط على ألسنة العوام، بل على أقلام الكتاب وألسنة المثقفين. والمليارات التى ندفعها كل عام لنعلم أبناءنا لغتهم الفصحى فى المدارس والجامعات ندفع أكثر منها للقنوات الفضائية وشركات الإعلان المتخصصة فى الترويج لسلع السوق ولغة السوق، وكتاب المسلسلات، وكتاب الأغانى الذين يظنون أن عاميتهم تجعلهم ورثة شرعيين لصلاح جاهين وفؤاد حداد، ومنهم من اعتبر نفسه بديلا عن شوقى وحافظ. والنتيجة هى هذا الانحطاط الذى وصلت إليه اللغة الفصحى فى مصر. قبل خمسين عاما كان مستحيلا أو يكاد يكون مستحيلا أن نجد خطأ نحويا فى كتاب أو صحيفة. لأن الذين كانوا يؤلفون الكتب كانوا كتابا وشعراء بالفعل، وكان الصحفيون صحفيين. فإذا كان العمل فى الصحافة لايتطلب فيمن يمارسه ما تتطلبه الكتابة الأدبية من إتقان وتمكن وتفرد، خاصة فيمن يعملون فى كتابة الأخبار والتحقيقات، فقد سدت الصحف هذه الثغرة بالمصححين الذين كانت تختارهم من بين الأدباء والشعراء وغيرهم ممن كانت تطمئن لقدراتهم اللغوية. فاذا وقع مع هذا خطأ فى كتاب أو صحيفة أثار استنكارا شديدا يجعل تكرار الخطأ احتمالا بعيدا. لكن الأخطاء النحوية والإملائية لم تعد الآن نادرة، بل أصبحت هى القاعدة. وهى تقع فى الكتب والصحف، فى الأعمال الأدبية وغير الأدبية، فيما تنشره الدور الخاصة والمؤسسات الثقافية الرسمية. بل هى تقع حتى فى العناوين فلاتجد من ينتبه ولاتجد من يعترض، لأن الاعتراض لايكون إلا من أصحاب العلم والذوق والغيرة. وهم الآن نادرون حتى فى أوساط المشتغلين بالتدريس والتأليف والتحرير والتصحيح. أما اللغة التى نسمعها الآن فى بعض القنوات الفضائية، خاصة فى المسلسلات التى يدور معظمها حول البلطجة والمخدرات والدعارة فأقل مايقال فيها أنها بذاءة علنية وانحطاط تحول إلى ثقافة عامة! وقبل خمسين عاما لم نكن نسمع من رجال العدالة إلا الفصحي، والأفلام القديمة شاهدة على ذلك. لكن الأمر اختلف الآن فالعامية هى لغة الجميع، قضاة ومحامين ومتهمين. وقد حدث أخيرا أن اضطر أحد كبار المستشارين لأن يقرأ علينا تقريرا خاصا بإنجاز سياسى شارك فى الإشراف عليه فوقع فى أخطاء لايليق بتلاميذ المرحلة الإعدادية أن يقعوا فيها. والذى لانستطيع أن نغتفره لرجال العدالة لانستطيع أن نغتفره لرجال السياسة الذين لانريد منهم أن يكونوا خطباء كما كان سعد زغلول ومكرم عبيد، ولانطمع فى أن نراهم يرتجلون مايقولون، وإنما نريد منهم فقط أن يقرأوا بياناتهم المكتوبة قراءة صحيحة عن طريق وضع علامات الإعراب على الكلمات ليكون الفاعل مرفوعا كما أرادت له اللغة أن يكون والمفعول منصوبا. مطلب متواضع لايكلفهم الكثير ويحفظ للغة القومية حقها. وهناك من يظنون أن اللغة عربية كانت أو أجنبية تستعمل فى السوق كما تستعمل فى المحكمة أو فى القصر الجمهوري. وفى هذا الظن إثم عظيم. لأننا قد نقبل الثرثرة أو المساومة فى السوق، لكننا لانقبلها فى المحكمة. ونحن لانكتفى فى السياسة بالحصول على بعض البيانات، وإنما نريد أن نعرف ماسوف يكون بعدها، وما الذى ينبغى علينا أن نصنعه إزاءها. نريد فى المحكمة أن نلمس الصدق والنزاهة والمنطق والعدل فى كلام النيابة والدفاع والقضاة. ونحب ونحن نستمع لزعمائنا السياسيين أن نجد فى لغتهم الدليل على احترامهم لنا وللوطن. لأنهم يخاطبوننا بلغتنا القومية. واللغة القومية رابطة قومية فهى شرط جوهرى من شروط وجودنا، مثلها مثل الأرض التى أنبتتنا والتاريخ الذى عشناه. من هنا يجب أن يكون الحديث بها فى المناسبات والقضايا القومية حديثا موزونا بليغا مبراً من الخطأ. لأن الخطأ ينال من صدق الحديث ويضعف من قيمته الرمزية. ولو أننا نظرنا فى ماضينا لنرى مكان اللغة فيه وما قدمته خلاله سلبا وإيجابا فسوف نجد أن ما أنجزناه فى تاريخنا الفرعونى المجيد ارتبط باللغة التى دوناها لأنها صارت عندنا علما وحكمة ودينا وأدبا وجعلناها مكتوبة مقروءة، وأن ماعجزنا عن تقديمه فى العصور الوسطى كان من أسبابه أن لغتنا المصرية تدهورت فى الوقت الذى كانت فيه العربية لاتزال لغة غازية لم تنتشر فى بلادنا ولم تتوطن إلا بعد قرون عدة، ولم تستطع أن تترجم عن أفكارنا وعواطفنا وآمالنا وآلامنا إلا فى هذا العصر الذى لم نكتف فيه بأن نتكلمها ونكتبها، بل أعدنا خلقها من جديد. فاذا كانت العربية القديمة قد ولدت فى جزيرة العرب فالعربية الحديثة ولدت وتربت وتثقفت فى مصر. وهاهى تخسر فى مصر ماربحته فيها! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي