لم أندهش حين علمت أن شائعة زيادة أسعار البنزين - قبل إقرارها رسمياً بأيام - كلفت وزارة البترول 50 مليون جنيه، ثمناً لستة آلاف طن إضافية من البنزين، تم ضخها لمواجهة تكالب السيارات على محطات الوقود.. ولو لم يستبق المغرض قرار الحكومة بتلك الشائعة، لربما مهدّت لها بما يجنب خزانة الدولة وجيوب المواطنين هذه الكلفة الباهظة.. هذا هو ثمن الشائعات، ويضاعفه بالتأكيد إحجام أو إهمال أو عجز وسائل الإعلام عن بذل أى جهد فى التحقق من مصداقية ما يصلها من معلومات، واستساغة واستسهال بثها ثم نفيها إذا دعت الحاجة، لتحقيق الشهرة والانتشار فى الحالتين، بصرف النظر عن الضرر البالغ الذى قد يقع من جراء ذلك، وفى العالم أيضاً أمثلة كثيرة على هذه الجريمة الأخلاقية التى يرتكبها الإعلام كل يوم: شائعة نقل «ستيف چوبز» مؤسس ورئيس شركة «أبل» للمستشفى مصاباً بأزمة قلبية، قبل وفاته عام 2011 بسنوات، كلفت شركته 5 مليارات دولار خسارة فى البورصة خلال ساعة واحدة! والمدهش أن صانع الشائعة كان صبياً أمريكياً مازحاً لم يتجاوز الثامنة عشرة، بعث بها لبرنامج iReport على قناة «سى إن إن»، وهو برنامج يتخصص فيما يعرف ب «صحافة المواطن»، أى يستمد أخباره من المواطنين، ويتعامل معهم كصحفيين هواة، ومن الواضح أن معلومة الصبى لم تخضع للفحص أبداً قبل النشر.. فى مايو 2004 أسفر تقصير مشابه عن إقالة «بييرز مورجان» رئيس تحرير صحيفة «ديلى ميرور» البريطانية، حين نشر على غلافها صورة، ثبت لاحقاً أنها ملفقة، لجندى بريطانى يتبول على سجين عراقى تحت التعذيب، وأدى نشر هذه الصورة المستفزة إلى استهداف جنود بريطانيين فى البصرة بقنابل حارقة ألقاها عليهم أطفال غاضبون فى العراق، مما تسبب فى سقوط قتلى وجرحي، ولم يكن صناع الشائعة سوى جنديين بريطانيين يتقنان برامج المونتاج والخدع البصرية، أرادا التباهى بموهبتهما.. بعد ثلاثة أشهر من هذه الواقعة (أغسطس 2004)، بثت قناتا «العربية» و»الجزيرة» مقطع فيديو مدته 55 ثانية، يظهر شاباً أمريكياً مقطوع الرأس، مع عنوان على الشاشة نصه: «ذبح رهينة أمريكية فى العراق».. كان الفيديو مروعاً وصادماً، وتناقلته القنوات ووكالات الأنباء العالمية على الفور، وانشغلت بالتعليق عليه لساعات.. فى اليوم التالى تلقت نفس القناتين مقطعاً آخر للرهينة المذبوح، لكنه هذه المرة كان حياً، جالساً القرفصاء على الأرض، ومحاطاً بعلب البيرة، ويقول إن اسمه الحقيقى «بنجامين فاندرفورد»، وسنه 22 عاماً، معترفاً بأنه زيّف الفيديو الأول فى منزل صديقه بمدينة سان فرانسيسكو، كى يثبت سهولة تلفيق الفيديوهات لشغل الرأى العام بقضايا وهمية.. ولم يوجه أحد لوماً للشاب، بعد أن لقن الجميع درسا،ً نادراً ما نتذكره! العامل المساعد الأبرز فى إنتاج وبث مثل هذه الشائعات المتقنة كما يتضح من المثالين الأخيرين، هو ظهور جيل جديد من أجهزة التصوير الرقمي، رخيصة الثمن، صغيرة الحجم، سهلة الاستخدام، عالية الجودة، لديها القدرة على الاتصال اللحظى بشبكة الإنترنت، التى يستخدمها حالياً أكثر من 40% من سكان منطقتنا، 88% منهم لا يتوقفون عن التدوين والتغريد والدردشة على شبكات التواصل الاجتماعي، وكثير من هؤلاء يواظب على استعراض قدراته فى استخدام تقنيات المونتاج المجانية، المتوافرة على معظم الحواسب والهواتف الذكية، ولا يبقى على المستخدم سوى أن يقرر هدفه والظرف الزمنى الأمثل لإنجازه، أو - فى حالات التشهير - أن يحدد خصمه، ونقاط ضعفه، لتكتمل لديه عناصر المخطط اللازم لإنتاج شائعة مدمرة.. أما حين تستهدف الشائعة قذفاً أو تشهيراً أو إهانة بحق شخص ما، حتى لو لم يكن معروفاً للعامة، هنا يتحول الأمر من مزحة أو مشاكسة إلى اغتيال معنوي، بل قد يتسبب فى اغتيال ماديّ، كما حدث مع الفتاة البريطانية «حنا سميث»، التى شنقت نفسها العام الماضى بسبب التشهير بها وإهانتها على الإنترنت، وكانت آنذاك رابع شخص يلجأ للانتحار فى بريطانيا لنفس الأسباب.. يا ترى كم تكلفت خزانة الدولة وجيوب المواطنين خلال الفترة الماضية بسبب الشائعات؟ وكم من شخص تعرض للتشهير والابتزاز الرخيص باستخدام معلومات أو صور أو فيديوهات بدت صادقة للوهلة الأولي، لكنها فى الواقع لم تكن إلا تزويراً متقناً، ولم نكلف أنفسنا والإعلاميين خصوصاً عناء التحقق من مصداقيتها؟ العبء الأكبر فى حصار هذه الظاهرة ووأدها فوراً يقع على الإعلام.. علينا أن نتعلم كيف نفحص كل معلومة قبل إعادة بثها، وأن ننقل هذه الخبرة للمجتمع، وبخاصة الناشئون، وعلى المؤسسات التشريعية ترجمة النصوص الدستورية التى تضمن حرية تداول المعلومات إلى قوانين قابلة للتطبيق، وتغليط عقوبة نشر الشائعات، وعقوبة القذف وتلويث السمعة (التى لا تتجاوز سنتين فقط فى قانون العقوبات).. الفرق كبير بين حرية التعبير وحرية التشهير، وكلمة واحدة قد تهدم وطناً، أو تقتل إنساناً.. لمزيد من مقالات د.محمد سعيد محفوظ