«لو كان من حق كل حالم بالابتكار أن ينشر معلوماته فلا يمكن أن يكون هناك استقرار، وإذا كان من حق كل هامس ضد الحكومة أن يثير السخط فلا يمكن أن يكون هناك سلام، كما أنه إذا كان من حق كل متشكك فى اللاهوت أن يبشر بشطحاته فلا يمكن أن يكون هناك دين».. كلمات بليغة لمفكر إعلامى إنجليزى يدعى «صمويل جونسون» قالها قبل نحو أربعة عقود حول ممارسة حرية الصحافة، لم أجد أفضل منها للرد على مايحدث اليوم فى عالم الصحافة العربية بأنواعها المطبوع والمرئى والإلكترونى .. تنسخ تماما ما ذهب إليه سقراط حين قال: أعطنى صحافة حرة أعطك خير أمة أخرجت للناس، بالمقابل يستوقفنى أيضاً ما ذهب إليه فى نفس الفترة الزمنية الكاتب الأسترالى «ماندر» فى كتابه «الصحافة عدو الشعب»، حيث قال: «إن حرية الصحف ليست فى الواقع إلا حرية أصحاب الصحف، وهؤلاء تتحكم فيهم المصالح الذاتية والنزعات الحزبية والاتجاهات الاقتصادية، فالصحيفة هى مجموعة من الآلات الصماء التى لانصيب لها من الحرية، يديرها عمال لا نصيب لهم كذلك من هذه الحرية . كما أن المحررين مرتبطون فى عملهم بإرضاء أصحاب الصحيفة، وهم لذلك لا حظَّ لهم أيضاً من الحرية، والنتيجة أن الذين يتمتعون بها فى الأسرة الصحفية هم أصحاب الصحف وحدهم». ولما كانت الحرية ليست مطلقة، فإن الوجه المقابل لها يجب أن يكون دائماً هو المسئولية. والفهم الصحيح لأبعاد هذه المسئولية هو بالضبط مانحتاج إليه الآن وسط فوضى الإعلام فى القنوات الرسمية والفضائية والمدونات، فضلاً عن الصحف والمجلات: صفراء وخضراء وكل ألوان الطيف.. المثير أن ماتبثه هذه القنوات قد بات يحدد أولويات الاهتمام ليس فقط الأفراد، بل الحكومات وأجهزة الدولة .. وأتساءل: من المستفيد من كل هذه الجلبة والضجيج؟ فلا تجد سوى جيوب منتجى هذه البرامج الذين لايراعون مصلحة الجمهور الحقيقى لهذه البرامج .. بل كل ما يهمهم هو أموال المعلنين .. فالإعلان قد أصبح هو السيد والملك الذى ينبغى أن تقدم له كل القرابين وتذبح أمامه كل المصالح القومية فى دنيا الإعلام. فقد أصبحنا نسمع ونشاهد فى الساحة الإعلامية ما لم نكن نتوقعه بدون أى هدف يذكر سوى الكسب السريع عن طريق الإعلانات التى لا تتورع عن فعل أى شىء حتى ما يخدش الحياء، فلقد لعب المال دوراً كبيراً فى طمس الأخلاق، فى ظل الترحيب بذلك لكى تستمر القناة ناجحة بدعم أموال المعلنين أولا، وبالبرامج الهابطة التى تزيد من حجم الإسفاف والتهميش للعقل العربى، فليس من المنطق أن يكون، مثلاً، ضمن البرامج الدينية التى تستقطب المشايخ الأفاضل إعلانات مخجلة، ونغمات موسيقية صاخبة، ما هذا التناقض العجيب والاستهتار بالفضيلة؟! .. لقد أصبح كل شىء فى عرف القنوات الفضائية العربية جائزا بفتوى المستثمرين فى تلك القنوات، مادامت مكاسب مادية فلا مانع من عمل أى شىء. إذن قوى السوق، والعرض والطلب، ومستويات المشاهدة هى من ينبغى أن نحاكمها وليس القنوات نفسها لأن هذه القنوات إنما تعكس رغبات الجماهير، وهى لن تعيش طويلا لو لم تفز بحصة معقولة من الجمهور. لقد بالغنا فى انتقاد تركيز الإعلام على الفساد وحده، وهو ما أفقده مصداقيته (!) وتحولنا بسببه إلى مجتمع يأكل بعضه، وتسيطر علينا «سياسة جلد الذات»، ورحنا نطالب باستقلالية الإعلام ليتمتع بمصداقية حقيقية ونزاهة وموضوعية، وهذا لن يتأتى سوى بتغليب المصلحة العامة على الخاصة، أما تضخيم القضايا بالشكل الذى دفع القنوات الفضائية للتهافت على تشويه صورة مصر أمام المواطن العربى، فلا يجب أن تخرج من الغرف المغلقة، حتى لاتكون سبباً فى إثارة البلبلة ونشر الرذيلة والقبح فى المجتمع. فالصياغات التى نشاهدها الآن لا تعبر عن الحقيقة أو أى صدق، كما تدعى. تقليص الحريات بمزيد من القوانين المنظمة والمشددة كما يتردد الآن رداً على ما يحدث ليس هو الحل، لكن مزيدا من الحرية هو المطلوب الآن .. فقط أخرجوا غير المؤهلين إعلامياً من ساحة الإعلام فلا يعقل أن تمتلئ الشاشات بنجوم الكورة والفن الهابط لمجرد الاستفادة من جماهيريتهم الرخيصة، فالإعلام علم وفن وموهبة وخبرة لدينا منهم الكثير .