كان للاضطرابات السياسية المتتالية والنزاعات الأهلية المسلحة أثرها الكارثى على واقع الثقافة فى السودان. ويضاف إلى ذلك غياب الحريات، والذى غالبا ما يبرر بوجود مخاطر على البلاد تجعلها فى حالة طوارئ دائمة. وفى مؤشر صحيفة (الايكونومست) الدورى الصادر هذا الاسبوع، عن مجالات نوعية الحياة المختلفة، جاء السودان فى ذيل قائمة الثقافة التى تصدرتها هولندا وبلجيكا. ولقد دأبنا على الاهتمام بالاقتصاد، والتركيز على قضايا مثل تدهور سعر صرف الجنيه السوداني، ولكننا فى نفس الوقت نهمل تدهور قيمة الثقافة فى الحياة. ورغم أن النظام الحالى فى السودان قد أعلن عند استيلائه على السلطة فى 30 يونيو 1989، أنه جاء بمشروع حضارى إسلامى وليس مجرد برنامج سياسي، إلا أن الثقافة كانت عقدة نقصه. فقد كان المبدأ الاستراتيجى للمشروع الحضارى يتمثل فى شعار النظام:إعادة صياغة الإنسان السوداني. وهذا يعنى بلغة اخري، تجديد أو تجاوز الثقافة القديمة السائدة. وكان من الواضح أن فكرة إعادة الصياغة سوف تصطدم بعدد من العقبات ،وستجد مقاومة من جهات عديدة فى بلد تميز بتعدده الثقافى الواسع. وقع النظام فى المحظور وهو أن تكون الثقافة جزءا من العمل السياسوي- الحزبى وأن تُراقب وتضبط أمنيا. وتم إنشاء وزارة سميت: (التخطيط الاجتماعي) سحبت كثيرا من اختصاصات ومؤسسات الثقافة. وكان على رأسها كوادر ليست ذات صلة بالثقافة. وأصاب قطاع الثقافة ضمور واضح، وحاول النظام معالجة القصور بتشجيع أفراد حزبيين، تأسيس منظمات ثقافية "أهلية". ورغم الصرف الحكومى السخي، فشلت هذه المؤسسات بسبب إصرارها على تسييس الثقافة، وأن تكون الثقافة خادمة للسياسة. والآن وبعد مرور ربع قرن على النظام، عجز السودان عن تقديم شاعر أو روائى أو مسرحى أو فنان تشكيلى بارز يستطيع المنافسة خارج السودان. ولم يستطع النظام تشجيع حركة النشر والتوسع فيها. وخلت البلاد من المسارح الجديدة ودور الاوبرا، وصالات عرض الفنون، ولم يتوسع فى بناء المتاحف بل تم إغلاق أغلب دور السينما العتيقة. وتم اختزال الثقافة فى الغناء فقط ، وحتى هذا لم يصاحبه تطور فى الموسيقى والتلحين. فقد تم توجيه الغناء إلى أغراض الحرب والسياسة من خلال دعوة لبعث التراث، وإحياء ما يسمى أغانى "الحماسة" وهى فى الأصل الأغانى التى كانت تؤدى تاريخيا خلال حروب القبائل المختلفة. وهذه الأغانى تقوم على الفخر وتمجيد الذات لإثارة الحماس وعدم الخوف. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد كانت تنطلق بين حين وآخر، دعوات التحريم والتكفير والمنع لملاحقة الإبداعات والمبدعين. شهد السودان عملية تجريف وتصحر ثقافى تزامنت مع الحرب الأهلية، ووجدت غطاءً تبريريا مع شعار: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ولكن رغم ذلك تحركت منظمات المجتمع المدنى لملء المجال الثقافى الذى تخلت عنه الدولة قصدا أو قسرا. وأول مبادرة كانت تأسيس مركز الدراسات السودانية فى القاهرة عام 1991م ثم انتقل إلى الخرطوم عام 2000م، ووضعت أولوياته المتمثلة فى "توثيق الثقافة السودانية والخروج بها من ثقافة المشافهة والكلام إلى الكتابة والتسجيل وبناء الذاكرة الوطنية". وكان لإنطلاقة المركز الأولى من القاهرة دور هام فى تعريف الإخوة المصريين بالثقافة السودانية،وربطهم بزملائهم من المثقفين السودانيين من خلال الندوات والنشر والمعارض والمهرجانات. فقد استضاف مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ومديره (السيد يس) أول ندوات المركزعام 1993م. ثم كانت الندوة الثانية عن:"التنوع الثقافى وبناء الدولة الوطنية فى السودان" بالتعاون مع الدكتور (على الدين هلال) عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والدكتورة (نازلى معوض) مديرة مركز دراسات الكلية. وفى عام1999م احتفل المركز بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة وأمينه العام الدكتور (جابر عصفور)، بسبعينية الروائى السودانى (الطيب صالح). وعقد المركز العديد من الندوات وحلقات النقاش مع المثقفين المصريين. خلق مركز الدراسات السودانية عقب عودته للخرطوم عام 2000م أجواء ثقافية نشطة وغنية، حتى أطلق عليه البعض صفة "وزارة ثقافة شعبية". وقد كانت قمة هذا النشاط عام 2006م احتفالا بمرور خمسين عاما على استقلال السودان. واستمرت الفعاليات طوال العام وشاركت فيها أهم القامات الابداعية والفكرية فى العالم العربي. فى نهاية عام 2012م والمركز فى قمة نشاطه، تسلم المركز قرارا من وزارة الثقافة بحظر نشاط المركز لمدة عام تنتهى بنهاية عام 2013. ورغم أن القرار كان تعسفيا، فقد التزم به المركز. وقد لمح بعض المسئولؤن بأن المركز يتدخل فى موضوعات سياسية، وحاولنا التمييز بين العمل السياسى والحزبي. فحين أقول أن أسعار ورق الطباعة صارت غالية، فقد يعتبر هذا موقفا سياسيا معاديا. وحين أتحدث عن حرية التعبير والخيال والابداع فهذه سياسة. المهم، مع نهاية مدة الايقاف، طلب المركز من الوزارة السماح بعودة نشاطه واستمرت المحاولة منذ بداية هذا العام وحتى اليوم بلا جدوي. ورغم أن الدعوة من قبل الحكومة للحوار الوطنى تملأ البلاد، تواجه منظمات المجتمع المدنى الثقافية صعوبات شتي. قد يستغرب القارئ فى طرح موضوع كهذا فى صحيفة "الأهرام". ولكن "الأهرام" فى عصر مصر الجديدة لم تعد صحيفة محلية، ولا يعتبر نشر مثل هذه القضايا تدخلا فى شأن داخلى لبلد ما. ف "الأهرام" التى تموج بالأقلام العربية ذات الاتجاهات السياسية المختلفة، جديرة بتفهم وتبنى قضايا الحريات والحقوق.وهذا المقال بمثابة بيان تضامن مع مركز الدراسات السودانية. لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على