فى إطار الاستعداد لاستقبال شهر رمضان، دعا علماء الدين عامة الناس إلى اغتنام قدوم الشهر الكريم فى الامتناع عن الجدال والحديث عن الخلافات السياسية التى مزقت شتاتها وفرقت بين الأخ وأخيه، وقال العلماء إن حالة الحراك السياسى التى تشهدها البلاد حاليا لا ينبغى أن تشغلنا عن الاستفادة العظمى من شهر القرآن، وإذا كان الامتناع والإمساك هو المعنى المباشر للصوم، فما أحوج عامة المصريين ونحن نستقبل عهدا جديدا، أن نعلن الصيام عن السياسة وسجالاتها، ونترك هذا الأمر لأربابه، وننشغل بالعمل والبناء والتقرب إلى الله بكل سبل الطاعات. الدكتور زكى محمد عثمان، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، يوضح أنه بالرغم من أن العمل بالسياسة يجب أن يكون مقصورا على الساسة دون غيرهم، فإن انشغال عامة الناس بالسياسة كان من الأمور التى أفرزتها ثورة يناير، فالجميع صارت له اهتمامات سياسية، فى القرى والنجوع، فى المصانع والحقول، بين المتعلمين وأنصاف المتعلمين والأميين، بين النساء والشباب وحتى الأطفال، وتحول أبناء المجتمع فجأة إلى خبراء ومحللين سياسيين!!، رغم أن كثيرا منهم يهرف بما لا يعرف، ومن ثم لا يخلو الأمر من تكهنات وتحليلات لا أساس لها، وقد يخوض البعض فى ذمة وضمائر أناس هم مما ينسب إليهم براء، مما يزيد من نشر الشائعات والأكاذيب، واتهام الناس بالباطل، ونحو ذلك وهذا مما ينبغى على عامة الناس الانصراف عنه والانشغال بما يفيد كل فى تخصصه. وإذا كان شهر رمضان هو شهر الطاعات والتقرب إلى الله، فلعله يكون مناسبة طيبة لعودة الأمور إلى نصابها، مع الانشغال بالعبادات واستثمار أوقاتنا كلها فيما يقربنا إلى الله من قول وعمل، وإصلاح فساد القلوب، وليت عامة الناس يتخلون ولو مؤقتا عن الانشغال بأحاديث السياسة الجدلية، فللسياسة دهاليز وخبايا لا يخبرها عامة الناس، وليتنا ننصرف إلى العمل الجاد والبناء، وكفانا تنظيرا وتحليلا وكيل الاتهامات للآخرين. ودعا د. زكى عثمان الإعلام والدعاة إلى توعية الناس بذلك وتكثيف البرامج الدعوية التى تعنى بالروحانيات وعودة السلوك والقيم الإسلامية وليس الانشغال ببرامج «التوك شو» التى تبحث عن الإثارة والجدليات. وأوضح الداعية الدكتور عبد العليم العدوي، أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر، أن شهر رمضان فرضه الله على المؤمنين ليكون تطهيرا للقلوب والنفوس والعقول والأجساد، ومن ثم كان ثمرة الصيام هى التقوي، كما قال سبحانه وتعالي: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون».. وأشار إلى أن الصيام ليس مجرد الامتناع عما حرم الله، بل وبعض ما احل الله، والصائم الحقيقى هو من صام قلبه عن الحقد والغل والحسد، وصام لسانه عن الغيبة والنميمة، وصامت عينه عن تتبع الحرمات، وأذنه عن سماع القبيح من الأقوال، ويمتنع مع كل ذلك عن شهوتى البطن والفرج اللتين هما بالأساس غير محرمتين فى غير وقت الصيام، ولفت إلى أن الصيام الحقيقى هو الذى تكون ثمرته التقوى «لعلكم تتقون»، ومن ثم يجب على المسلم أن يستعد لقدوم شهر رمضان بالبعد عن كل ما يلهيه عن الذكر والعبادة وتحصيل عظيم الحسنات، من ذلك ترك الجدل السياسي، وما يستتبعه من غيبة ونميمة وإشاعات، والامتناع عن الخوض فيما لا يفيد، فالامتناع عن الكلام أيضا صيام، وهذا ما أكدته الآية الكريمة على لسان مريم عليها السلام «إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا»، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأنه من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه، ويندرج ضمن قول الزور إشاعة الفاحشة والأخبار الكاذبة، وكل ذلك حاصل فى انشغال العوام بالسياسة.وهذا ما يجب أن نتنبه إليه جيدا حتى لا نقع فيما حذر منه النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله: رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر. الدكتور مأمون مؤنس أستاذ اللغويات بجامعة الأزهر، يقول: إن رمضان منحة ربانية تأتى فى العام مرة واحدة، ليهذب النفوس ويقوى الإيمان فى القلوب لأن الشيطان كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم: «يجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش». ورمضان لا يحتاج ما نراه الآن من حوارات وجدال ونقاش لا طائل تحته. فالإسلام لا يقر المراء والجدال والانشغال بما لا ينفع وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت فى وسط الجنة لمن ترك المراء (الجدال) ولو كان محقا». كما حذر القرآن الكريم من الجدل واللغو والانسياق وراء الجاهلين فقال تعالى «...وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، وقال أيضا «..وإذا مروا باللغو مروا كراما». ولفت د. مأمون إلى أن الله عز وجل لم يشرع الصيام ليعذبنا به، بل هو تهذيب وتأديب وعودة إلى الأخلاق التى افتقدتها أمة محمد، ذلك أن الإنسان عبارة عن جزءين أساسيين، جزء ينتمى إلى الأرض وهو الجسد، وجزء ينتمى إلى السماء وهو الروح، وغذاء الجسد ماديات الحياة وشهواتها، أما غذاء الروح فطاعة وعبادة والتقاء بالله من خلال القرآن ومن خلال ما فرضه علينا.. وفى شهر الصيام يمتنع الإنسان عن شهوات البدن ويعطى للروح حقها فتعلو وتسمو.. وليت الأمة تتعلم من مدرسة الصوم أن تعيش مع الله ولله، وكفانا انشغالا بما لا يجدى من جدال ومراء لا طائل له، فلابد لكى يصلح هذا الوطن وتلك الأمة من إصلاح أنفسنا ولن يكون صلاح أنفسنا إلا بتصحيح علاقتنا بالله، ورمضان فرصة عظيمة لكى نصحح مسارنا مع الله إن أردنا خيرا لهذا الوطن.