اليوم يكون درس التشريح, واليوم يأتى الطلاب بمشارطهم وعينهم وحواسهم من أجل الفرجة على عملية التشريح, واليوم تنقبض القلوب ويسرى الدم فى العروق وتخرج وتدخل الأنفاس وتتجول السحب فى سماء الحجرة وتشرق الشمس من مغربها وتغرب من مشرقها, واليوم يتم القمر ويشع الضياء, واليوم تغطى الغيوم ذلك الضياء... اليوم حصة التشريح. جاء مدرسنا بهيئته المقززة المعتادة مرتديا (جوانتى) فى يديه, وقطعة قماش بيضاء بدلا من البالطو, أمسك سكينا بدلا من المشرط, نظر إلى القمر المغطى بالغيوم فى طرف الغرفة وقال: «من ستقوم بتشريح جثته الليلة؟؟». سكت الجميع وبدأنا فى تبادل النظرات فيما بيننا, أخذت نفسا عميقا وتقدمت إلى الأمام وقلت ناظرا فى عمق عينيه: «أنا سأكون الجثة اليوم». قال لى: «حسنا ولكنك بدين نوعا ما وسيرهقنا تشريحك... أيا كان, استلق على هذا السرير وأنا قادم لأشرحك حالا». استلقيت, وجدت وجوها كثيرة لامعة من شدة العرق فى تلك الليلة الحارة وكل موجه عينيه إلى جسدى, أعين تعكس ضوء القمر, وأعين مظلمة, لا لون فيها ولا لمعان... إن الأرض فعلا كروية فأنا أشعر الآن بانزلاقى من فوقها... الأنفاس تتزاحم ونفسى يزاحمهم باحثا له عن مكان بينهم. جاء المدرس وأمر الجميع بإفساح الطريق له متوجها نحوى حاملا منشارا أو ساطورا, موجها نصله إلى جسدى... رفعه كما المقصلة وأشعت عيناه بالضوء وانعكس ضوء عينيه على النصل وهوى على صدرى, فانطلقت منى الدهون متناثرة فى كل مكان, مصيبة (البالطو) أو قماشته تلك بالاتساخ... قال لى: «ألم أقل إنك بدين وسترهقنى». نظرت إليه فوجدته يمد يده إلى داخل صدرى معافرا حتى خرج بقطعة حمراء نابضة, تطلق الدم فى وجهه مع كل انقباضة لها... شكلها جميل, يستهويك... ولكنها مرة, لا تحمل أى حلاوة بداخلها. أشار لنا المدرس أن ننظر إلى تلك القطعة قائلا: «هذا هو القلب يا سادة... والقلب عضو مهم إلى حد ما ولكنه ليس حيويا كما يظن البعض, فمن الممكن أن نعيش بدونه... هناك عمليات تجرى لإزالته فى بعض الحالات, وذلك إنقاذا لحياة المريض, والبعض يولد بدونه كعيب خلقى, ولكنه ليس عيبا للدرجة, فالحياة بدونه غالبا تكون على ما يرام... كما أن بعض المراكز الكبرى والسلطات تشترط فى موظفيها عدم وجود القلب, حتى ازدادت نسبة اللاقلبيين فى الفترة الأخيرة... فإن بعض الدول تحكم بالإعدام على أى مواطن يتم كشف أمره من أنه مازال يحمل بداخله قلبا, لاسيما لو كان نابضا... والقلب كما يعلم جميعنا يا سادة يتكون من أربع حجرات... البعض يستغلها فى إيجارها لبعض الباحثين عن قلوب تنبض بأسمائهم... وسنتعرف الآن على تلك الحجرات مع بعضنا البعض.» وبدأ فى تقسيم قلبى بسكينه وتفصيصه بيده كما لو كان برتقالة, ففتح أولى الحجرات, وكانت مزينة بالورود, تتوسطها حديقة كبيرة ولكن أوراق أشجارها متساقطة, تغطى الأرض وتكسوها بلونها الأصفر الكئيب, كانت خريفا... بعض الحسناوات وغير الحسناوات يقفن بجوار بعضهن البعض فى جنبات الحجرة, إحداهن ممشوقة القوام, شقراء, شعرها أصفر ينير تلك الحجرة, عيناها كبيرتان, تطلق نيرانها وحممها كالبركان, تتساقط من أطراف أعينها لتحرق المارة والمعجبين وعابرى السبيل. وبجوارها فتاة أخرى مكتنزة الجسد, شاهقة البياض, ابتسامتها تفتح بابا على خبايا قلبها النقى مرمرى اللون, كانت ابتسامتها تظهر من بين شفتيها قلبا نقيا, لم تلوثه عوادم السيارات. وبجوارهما أخرى سمراء وأخرى عارية وأخرى محجبة وكثيرات, كثيرات... وتقف فى قلب الحجرة, ذات الشعر الأسود مثل الليلة الظلماء, التى تطل فيها عيونها لتصبح قمرها ويشرق فى آخرها وجهها ليكون شمسا لنهار جديد. تقف فى وسط الحجرة بجناحى الملائكة وبتاج الملكة فوق رأسها. هى الملكة, هى من تتحكم فى النبضات, تضغط أكثر فتزيد من خفقات القلب, وتفك يديها, فيرتاح القلب و ينهار... أما الحجرة الثانية فكان من الصعب على المدرس فتحها, كانت مغلقة بشدة, كانت مظلمة, حالكة الظلام, لا يصل إليها ضوء الأقمار المجاورة ولا تطلع عليها شمس ذات الشعر الأسود. كانت بلا دماء تمر فيها, خشيت يفتح المدرس تلك الحجرة فقد يجد فيها صورته القبيحة أو صورة «عاطف» المتفرج فى الصفوف على عملية التشريح أو أى من هؤلاء المكروهين المنبوذين. ثم كانت أجمل الحجرات, الحجرة الثالثة... تسمع فيها صوت موسيقى وصوت امرأة تغنى بنعومة أنثوية من باريس العصور الوسطى, تجد فيها جمال عبد الناصر يقف فى جانب الحجرة فاردا قامته ويخطب فى الجماهير المبهورة, وبجواره أمى تصنع لى طعاما وهى تسمع تلك الخطبة ثم تتركه لتتابع حلقات المسلسل الممل, ويقف شخص يبدو مألوفا رغم أننى لم أره من قبل, عتيق ومشرق, يصلى ووراءه المصطفون ويقف فى آخر صف أبى يصلى معهم وبجوراه كتاب لماركس, ثم وأثناء الركوع يأخذ قلما ليكتب به بعض الكلمات على طرف الكتاب. فى الجوار أرى مارادونا يمشى بكرته متأرجحا بين لاعبين إنجليز وأرى طفلا فى السادسة من عمره جالسا أمام شاشة سينما, فاتحا فمه للآفاق,عيناه لا تغفل أبدا,وكلما ظهرت كلمة «النهاية», أمر عامل السينما بإعادة الفيلم من بدايته. أما آخر الحجرات فقد كانت خاوية, لا يوجد بها أى معالم... قد تمتلئ فيما بعد وقد تظل هكذا خاوية إلا من بعض الدماء. نظر المدرس إلى ساعته ثم أعطانى قلبى فى قبضة يدى وقال لى: «أدخله إلى مكانه, ثبته ببعض الضلوع وخيط جروحك. أو ألقه فى سلة المهملات المجاورة, تصرف كما يحلو لك, لا يهم... انتهى الدرس يا شباب, يجب علىّ أن أذهب الآن, فقد حان ميعاد نومى, تصبحون على خير.»