بعض مضمون هذا المقال نشر منذ عام8002 تحت عنوان مغاير, وفي هذه الحقيقة دليل قوي علي أن لا شيء قد تغير في الاقتصاد السياسي لمصر منذ تحكم فيه, في غفلة من الزمن, الغر المأفون رئيس مجلس السياسات ولي عهد الطاغية المخلوع. فقد ظل ديدن رؤساء الحكومات ووزراء المالية في مصر في السنوات العشر الأخيرة في عهد الطاغية المخلوع, تنفيذا لأوامر أمين السياسات بحزب الحاكم المنحل, هو الشكوي من عجز الموارد والتعلل بهذا العجز عن الوفاء بحقوق الشعب, وكان ذلك الادعاء الكاذب وسيلة خسيسة للتعمية علي النهب الفاجر الذي كانت تقوم به عصابة الحكم التسلطي, وللتهرب من إقامة العدالة الاجتماعية في البلد. ومن شديد أسف أن استمرت السلطة الحاكمة بعد الثورة وحكوماتها الذليلة المتعاقبة, في اتباع النهج نفسه, فلطالما, تباري السادة رؤساء وزارات, وزراء مالية, المجلس العسكري بالشكوي من عجز الموارد المالية, للتهرب من إقامة العدل في المجتمع علي الرغم من أنه من أهم مطالب ثورة شعب مصر العظيمة, ملقين الرعب في قلوب الشعب من تفاقم الأزمة المالية التي يوحون بإرجاعها لقيام الثورة, غاضين الطرف عن دور نظام الرئيس المخلوع, ولجنة سياسات ولي عهده, وأخطاء السلطة الانتقالية ذاتها بعد الثورة في تركيع الاقتصاد الحقيقي في مصر وكان مذهبهم دائما الاستجداء من الأشقاء العرب أو مؤسسات التمويل الدولية. ولاشك عندي في أن التركيز علي جانب التمويل يعبر عن مغالاة في فنيات ذهنية الرأسمالية المنفلتة والاحتكارية التي تبناها حزب الحاكم المخلوع, خاصة حرسه الجديد بقيادة ولي العهد المسمي, وجرت هذه الذهنية علي عامة المصريين ويلات التعاسة, كما أوقعت العالم كله في الأزمة المالية الطاحنة التي تؤذن بسقوط هذه الذهنية المريضة والعقيمة التي تطلق رأس المال وحافز الربح بلا حسيب أو رقيب, ومن سوء الحظ أن السياسة الاقتصادية لحكومات السلطة الانتقالية لم تبرأ من هذه الذهنية المريضة. ويقيني أن هذا الجانب الفني من أيسر المسائل, والتركيز عليه هو حجة البليد كما يقول العامة, فالقرار السياسي المطلوب لإقامة العدل, هو بيت القصيد وعند اتخاذه يمكن حسم الأمور الإجرائية كافة, وببساطة, وفصل القول أن هذا القرار لن يتخذ أبدا ما دام منطق حزب الحاكم المخلوع ما فتئ مسيطرا علي ذهنية السلطة الانتقالية في مصر, ولو علي حساب إفقار باقي المصريين وقهرهم, فالتوجهات هذه كانت هي نقيض العدل, ومنشأ الظلم في عموم مصر. وبناء عليه, فإن كثيرا من الإنفاق العام في ظل الحكم التسلطي هو إنفاق مسرف وبذخي, وبعضه بادي السفه, وجميعه منحرف عن غاية إقامة العدل إلي غرض تدويم الحكم التسلطي, وفي هذا يقع مثلا تفسير أن يزيد عدد العاملين بجهاز الأمن علي مجموع العاملين بقطاعي التعليم والصحة سويا, وإن قامت علاقة مختلة مماثلة في موازنة الإنفاق العام. بل إن هذا النمط المعوج من التصرف قد طال ثروة البلد وأصولها الرأسمالية, كما تبدي في بيع مشروعات القطاع العام بخسا وحتي بيع أرض الوطن لأعضاء التشكيل العصابي الحاكم وأيضا للأغراب من محاسيبهم وبأثمان متدنية, أعاد هؤلاء بيعها في حالات لأهل البلد بأضعاف ما دفعوا فيها, فلم تتوقف مغبة قرارات الحكم التسلطي, المنتجة للظلم, علي تبديد الموارد الدورية وإنما امتدت إلي تبديد الأصول, فطال ظلمهم حتي الأجيال القادمة. وفي هذا الفهم يكمن مفتاح تدبير الموارد اللازمة لإقامة العدل في مصر, ألا وهو إيقاف أنماط الإنفاق العام وقرارات الحكم التسلطي التي تحرف استغلال موارد البلد وتخصيصها, عن غاية إقامة العدل, وإعادتها إلي الغاية الأصيلة للحكم, أي منع الظلم وإقامة العدل, دونما حاجة إلي الاقتراض من الخارج, ناهيك عن الاستجداء المخزي. ونقدم فيما يلي مجموعة من المقترحات المحددة التي تكفل تدبير موارد بديلة للاستجداء والاستدانة, وتمثل في حد ذاتها مداخل لإقامة العدل ولضمان حكم مؤسسي صالح في الوقت نفسه: إيقاف جميع أشكال الترف والبذخ في الإنفاق العام, مثل التبذير في شراء السيارات الفارهة الحديثة, ليس فقط للوزراء, بل لمساعديهم ومستشاريهم, وحتي لقوات الأمن, وعلي تجديد القصور الرئاسية, بدلا من العمل علي بيعها لتدبير موارد إضافية لخزينة الدولة التي أفرغها سوء الحكم الانتقالي, أو تحويلها لمتاحف تدعم السياحة, والتمويل الباذخ لفرق كرة القدم التي تمولها الوزارات والقوات المسلحة والشرطة, والتي يجب بيعها إن وجدت مشتريا وإلا فلنتوقف, وتوجيه كل الموارد التي تتوافر من ترشيد الإنفاق لصندوق لتنمية الاقتصاد إنتاجيا ولإقامة العدالة الاجتماعية عبر سبل شفافة, ميسرة وفعالة, ولا ريب أن الشعب يمكن أن يتحمل شظف العيش أطول إن تأكد من تقشف السلطة في التصرف في أموال الشعب وحسن توظيفها ولأنها جادة في العمل علي ضمان العدالة الاجتماعية. إلغاء مجلس الشوري الذي لم يخدم غرضا مفيدا, اللهم إلا منح الحصانة البرلمانية لمحاسيب السلطة وبعضهم كانوا من عتاة المجرمين, وتوجيه ميزانيته التي تبلغ مليارات لدعم الاقتصاد ولإقامة العدل, ولو كان هذا القرار اتخذ باستشارة الشعب قبل شهور, كما طالب كثرة من النخبة, لوفر لخزانة الدولة المليار الذي أنفقته علي انتخابات مجلس الشوري التي لم يعرها الشعب اهتماما, وانصرف عنها. قبل الاقتراض والاستجداء من الخارج, علي المجلس العسكري وحكومته, ومجلس الشعب, مطالبة كبار أثرياء مصر وكبار الموظفين في البلد في القطاعين العام والخاص, وجماعات الإخوان المسلمين والسلفيين المتمولين بسخاء, والفنانون والإعلاميين ولاعبي الكرة ومدربيها, أصحاب الرواتب المليونية بالتبرع أو تقديم قروض حسنة, أي بدون فوائد, لخزانة الدولة الخاضعة لرقابة مجلس الشعب, هذا هو معيار الوطنية الآن, ما دام الوطن في ضائقة, ورحم الله أم كلثوم, التي سخرت كل طاقاتها وجل ثروتها للتبرع للوطن بعد هزيمة7691, فليتعلموا جميعا منها, ولو قليلا! وضع حد أقصي للدخل( مجمل الأجور والرواتب والبدلات) لجميع العاملين بأجهزة الدولة شاملا القوات المسلحة والأمن بحيث لا يتعدي51 02 مثلا من الحد الأدني للأجر, كما هو الحال في جميع الدول الرأسمالية المتقدمة. إنهاء عوار الصناديق الخاصة التي كانت, ومازالت, مرتعا للفساد, وإعمال مبادئ الرقابة والمساءلة, ضمانا للنزاهة علي جميع الموارد العامة والإنفاق منها. إلغاء أي أثر باق لبدلات ومكافآت الولاء سيئة الصيت والتي يقدر البعض أنها كانت ترفع تكلفة موكب واحد لرأس الحكم المخلوع داخل القاهرة الكبري إلي خمسة عشر مليون جنيه, تزيد إلي أكثر من الضعف لو انتقل جنابه إلي خارج القاهرة داخل الجمهورية. خفض عدد العاملين بأجهزة الأمن إلي النصف أو أقل, بإعادة هيكلة أجهزة الأمن لتصبح أقل عددا ولكن أعلي كفاءة في صيانة أمن المواطنين وحقوقهم, تحت الإشراف الكامل للقضاء المستقل تماما, مع إتاحة التدريب التحويلي الملائم لتوظيف من يرغب, ويصلح منهم, بمجالات التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعي, وإجراء خفض مواز لمخصصات أجهزة الأمن لمصلحة زيادة مخصصات التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعي. إصلاح الهيكل الضريبي بإعطاء الأولوية للضرائب المباشرة علي الدخل والإثراء( أي الأرباح الرأسمالية أساسا) والعودة إلي نظام معدلات الضرائب التصاعدية حسب شرائح الدخل والثروة, وتكثيف الجهد لتحقيق الانضباط الضريبي, خاصة بين كبار الممولين. وقف وهب الغاز والبترول المصري للعدو الإسرائيلي بأسعار متدنية. استعادة مشروعات القطاع العام التي بيعت بخسا وإفسادا, للملكية العامة, مع تعويض أصحابها الحاليين عما دفعوا في شرائها فقط, وليس قيمتها السوقية الحالية, وتبني سبل توسيع قاعدة ملكية الشعب لهذه المشروعات, وتخصيص قسم من أرباحها لصندوق تنشيط الاقتصاد وإقامة العدل. مصادرة الثروات التي استلبها أصحابها, بطرق غير مشروعة أو غير أخلاقية. مثل عمولات توريد السلاح وإرساء المناقصات العامة والمضاربة في الأراضي والبورصة وأرباح الاتجار في المخدرات والتهرب الضريبي, خاصة بإساءة استغلال النفوذ والحظوة من السلطة والثروة, وتخصيصها لمحفظة تنشيط الاقتصاد وإقامة العدل. ونتمني مخلصين ألا يهاجم أحد هذه المقترحات, إن قرأوها, علي أنه لا تناسب العصر, أو تخيف رأس المال. وفي النهاية, نتمني مخلصين أن تكون السلطة الانتقالية الراهنة, المجلس الأعلي وحكومته, ومجلس الشعب الجديد, معنا, علي اقتناع أكيد بأن قيم العدل والمساواة هي من أسمي ما تنزع إليه المجتمعات البشرية المتحضرة, حتي في ظل التنظيم الرأسمالي السليم, وهي بلا أدني شك في صميم صحيح الإسلام. ومن يصر علي الاقتراض والاستجداء مهملا البدائل المشار إليها أعلاه, فليس إلا كارها للعدالة الاجتماعية أو عاملا علي تبعية مصر لمقرضيها والمحسنين لها, أو كليهما. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى