الحمامات الشعبية ستظل أحد أوجه القاهرة القديمة المبهجة. مهما أخرجها التقادم، والتطور، من دوائر الاهتمام، فهى إلى الآن لا تبهر روادها بمعمارها فقط، بل بأجوائها الموحية، وحكاياتها التى سكنت التاريخ، والذهنية الشعبية، فى الأمثال، والحكايات المرتبطة بالعادات والتقاليد فى المجتمع. لا يستطيع أحد تحديد بداية ظهور الحمامات الشعبية تاريخيا فى المحروسة، وإن أرجعها بعضهم إلى زمن «عمرو بن العاص»، وآخرون يرجحون بدايتها فى زمن الخليفة العزيز بالله الفاطمي، غير أنها شهدت ازدهارا فى العصر المملوكي، وكانت أزهى عصورها فى زمن العثمانيين، الذين أسموها «الطبيب الأبكم»، لاستخدام الأعشاب والزيوت العطرية لعلاج مواجع مختلفة. وكان التجار الرحالة سبب إنشاء هذه الحمامات، لأنهم كانوا يصلون من رحلاتهم الطويلة فى غاية الإرهاق، ويريدون تنظيف أنفسهم، من «وعثاء السفر »، ومشقاته، وأجسادهم تحتاج لاسترخاء بعدما أرهقها ركوب الدواب، و الخيول لمسافات طويلة. فكان ذهابهم إلى الحمامات راحة ومتعة، ولأصحاب الحمامات رواجا ودخلاً وفيرا، فازدادت أهميتها وباتت ضرورة، لا ترفاً، وانتقل الاهتمام بها من الوافدين إلى أهل القاهرة، فتحولت إلى عادة اجتماعية واسعة، ومطلب ضرورى فى المناسبات الاجتماعية مثل الأعراس، والاحتفالات المبهجة. ونتيجة ازدياد الإقبال عليها، انتشرت فى أنحاء القاهرة، واصبح منها العشرات فى أنحاء المحروسة، وازدحمت بالفقراء والأغنياء، مما استوجب تخصيص أيام للرجال وأخرى للسيدات والأطفال، أو تخصيص حمامات كاملة للحريم، وأخرى للرجال. ومن الحمامات التى ما زالت تقاوم الزمن، وتستخدم حتى الآن، «حمام الأربعاء» فى منطقة بولاق الذى جاوز خمسمائة عام تقريبا، و«حمام الملاطيلي» فى «باب الشعرية» واكتسب صيته بسبب تسمية المخرج الراحل «صلاح أبو سيف» لأحد أفلامه باسمه، وهو يعود لما يقارب ستمائة عام، وحمام «التلات» و«السلطان» و«العباسية» و«الشراوي» و«المرجوشي» فى حى الحسين. و«طولون» للرجال، و«حرفوش» للنساء. وما زال الزبائن يترددون على حمام «الأربعاء»، تمسكا منهم بالطريقة الكلاسيكية فى الاغتسال، وإحساسهم بالراحة الطاغية، وأن أجسادهم تتنفس، وتختلف جذريا بعد تنشقها بخار الحمام الشعبي، الذى يفتح المسام بقوة. ولاستحمام الرجال طقوس مختلفة ربما تستمر لأكثر من ساعتين، وتبدأ عادة بحمام ساخن لعشر دقائق، يليه البخار لتفتيح مسام الجسم لحوالى ربع الساعة،ثم حمام بارد لإزالة العرق أو أى دهون أفرزها الجسد، ينزل بعده الزبون إلى مغطس الماء الساخن بعض الوقت، بعدها يسترخى على مصطبة من الرخام، مرتفع عن الأرض، ويتم تدليك جسده بيد مدربة على المساج، ويكون الختام دُشاً ساخناً بالماء والصابون لربع ساعة أخري. ثم يُلف الجسد جيدا فى المناشف، ويتناول مشروبا دافيئا، وبعض الفواكه التى تنعش الجسم. ويستقبل زائر الحمام الشعبى «المكبساتي» وهو المسئول عن الزبائن من أول خلعهم ملابسهم عند الباب، ويقوم بتدليك جسده أولا، ثم طقطقة مفاصله، ثم فرك جلده بالمقشطة التى تكون خشنة جدا وتستعمل للرجال، ومع النساء تغطى بكيس حريري. وبعد الفرك يكون الاستحمام بالصابون واللوف الخشن أيضا، وبعد أن ينتهى زائر الحمام من رحلته هذه التى تستغرق ساعتين يسترخى قليلا قبل أن يرحل. أما حمام السيدات فتزيد الخدمات فيه قليلا، خاصة إذا كان الحمام استعدادا للزفاف، حيث يتم دهن جسد العروس بطبقات من الدهون والعطور لتتغلغل خلاصاتها فى مسامها، وتدخل بها إلى حمام البخار، لتفتيح المسام وتنعيم الجسد، وإكسابه نضارة، بعدها يتم تحميمها بماء بارد، ثم يغطى جسدها بعجينة أعشاب متماسكة، ويظل على جلدها لنصف ساعة، ويتم غسلها بماء الورد الغزير، وتبخيرها. وتستفتح «البلانة» عملها بتحضير الاعشاب، والقيام بتدليك جسد العروس ووضع الحناء عليه بعد تنظيفه، لتتسلمه منها«الماشطة»، لتصفف شعرها وتجمل وجهها، ولا يتركانها إلا لامعة مشرقة، تفوح منها الروائح العطرة. وتستجلب المياه لهذه الحمامات، ويملأ مغطسها وأحواضها من بئر عميقة أسفل الحمام، وكان يتم رفعها بواسطة ساقية يديرها ثور فى مستوى أعلى من غرف الحمام، لرفع المياه من البئر إلى الفسقية، وتسخن المياه بالمستوقد الذى كان يوجد عادة بجواره، وكل الأدوات المستخدمة فى الحمام طبيعية من البيئة، مثل الحجر الأحمر الخشن، الذى يكشط به الجلد الميت من الكعوب وأطراف القدمين واليدين، ليستعيد الجلد نعومته، والصابون من زيت الزيتون، واللوفة من القماش الخشن لتدليك الجسم وتنظيفه. وكانت تصميمات الحمامات الشعبية فى القاهرة بزخارف إسلامية، والممرات والأبواب ضيقة، ضمانا للهدوء، ومنع تيارات الهواء عن المكان. ويتكون مبنى الحمام من عدة حجرات أرضيتها مصنوعة من الرخام الأبيض بشكل رئيسى والرخام الأسود فى بعض الأجزاء إضافة إلى البلاط الأحمر، والحجرات صغيرة مغطاة بقباب بها فتحات صغيرة دائرية من الزجاج تسمح بدخول الضوء الخافت. والحجرة الأولى هى المسلخ، وبه أربعة ليوانات، وهى تشبه المصطبة، ومغطاة بالرخام ويخصص منها ليوان واحد لراحة مستحمى الطبقتين المتوسطة والغنية يكون مفروشا وعليه وسادات. وباقى الليوانات للطبقات الدنيا لا يوجد بها سوى الحصر. وفى هذه الحجرة فسقية يتدفق منها ماء بارد وعادة ما يفضل المستحمون خلع ملابسهم فى هذه الغرفة أيام الحر. والحجرة الثانية إسمها»البيت الأول» وهى مغلقة، وتشكل مع المسلخ ممراً قصيراً تقع ثلاث دورات مياه فى جانب واحد منه، والحجرة بها مصطبتان إحداهما مرتفعة عن الأخري. والحجرة الثالثة هى (الحرارة) وتضم أربعة ليوانات من المسلخ وفى وسطها توجد فسقية ماء ساخن متدفق من الحوض وسط مقعد ثمانى الزوايا مكسوا بالرخام الأبيض والأسود وقطع البلاط الأحمر . وتحتل كل غرفة من الثلاث ضلعا فى مربع الحمام، وآخر ضلع توجد به غرفتان صغيرتان تضم إحداهما مغطساً من الماء الدافئ، وفى الأخرى صنبوران واحد للماء الدافئ وآخر للبارد. ويعتقد المصريون أن الحمام مكان مفضل للجن، لذا يجب على المرء إقامة الصلاة قبل دخول الحمام لحمايته من الأرواح الشريرة. يفضل المستحم خلع ملابسه فى المسلخ ثم يأخذ خمس مناشف يضع فى الأولى ملابسه والثانية يلفها على وسطه تصل إلى منطقة الركبتين والثالثة يلف بها رأسه والرابعة يلف بها صدره أما الخامسة فيضعها على ظهره ويساعد المستحم فى الحمام صبى يطلق عليه «اللونجي» أى خادم الليوان.